البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (33)

نوح : اسم أعجمي مصروف عند الجمهور وإن كان فيه ما كان يقتضي منع صرفه وهو : العلمية والعجمة الشخصية ، وذلك لخفة البناء بكونه ثلاثياً ساكن الوسط لم يضف إليه سبب آخر ، ومن جوز فيه الوجهين فبالقياس على هذا لا بالسماع ، ومن ذهب إلى أنه مشتق من النواح فقوله ضعيف ، لأن العجمة لا يدخل فيها الاشتقاق العربي إلاَّ إِنْ ادعى أنه مما اتفقت فيه لغة العرب ولغة العجم ، فيمكن ذلك .

ويسمى : آدم الثاني واسمه السكن ، قاله غير واحد ، وهو ابن لملك بن متوشلخ بن اخنوخ بن سارد بن مهلابيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم .

عمران : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة ، ولو كان عربياً لامتنع أيضاً للعلمية ، وزيادة الألف والنون إذ كان يكون اشتقاقه من العمر واضحاً .

{ إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } قال ابن عباس : قالت اليهود : نحن أبناء إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب .

ونحن على دينهم ، فنزلت .

وقيل : في نصارى نجران لما غلوا في عيسى ، وجعلوه ، ابن الله تعالى ، واتخذوه إلهاً ، نزلت رداً عليهم ، وإعلاماً أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله ، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه ، ثم إلى ولادته هو ، وهذه مناسبة هذه الآيات لما قبلها .

وأيضاً .

لما قدم قبل : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ووليه { قل أطيعوا الله والرسول } وختمها بأنه { لا يحب الكافرين } ذكر المصطفين الذين يحب اتباعهم ، فبدأ أولاً بأولهم وجوداً وأصلهم ، وثنى بنوح عليه السلام إذ هو آدم الأصغر ليس أحد على وجه الأرض إلاَّ من نسله ، ثم أتى ثالثاً بآل إبراهيم ، فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المأمور باتباعه وطاعته ، وموسى عليه السلام ، ثم أتى رابعاً بآل عمران ، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام ، ونص على آل إبراهيم لخصوصية اليهود بهم ، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم ، فذكر تعالى جعلَ هؤلاءِ صفوة ، أي مختارين نقاوة .

والمعنى أنه نقاهم من الكدر .

وهذا من تمثيل المعلوم بالمحسوس .

واصطفاء آدم بوجوه .

منها خلقة أول هذا الجنس الشريف ، وجعله خليفة في الأرض ، وإسجاد الملائكة له ، واسكانه جنته ، إلى غير ذلك مما شرّفه به .

واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء ، منها : أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض بتحريم : البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم ، وأنه أب الناس بعد آدم وغير ذلك ، واصطفاء آل إبراهيم عليه السلام بأن جعل فيهم النبوّة والكتاب .

قال ابن عباس ، والحسن : آل إبراهيم من كان على دينه .

وقال مقاتل : آله اسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط .

وقيل : المراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه .

وتقدّم لناشىء من الكلام على ذلك في قوله : { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون }

وعمران هذا المضاف إليه : آل ، قيل هو : عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود ، وهو أبو مريم البتول أم عيسى عليه السلام ، قاله : الحسن ووهب .

وقيل : هو عمران أبو موسى وهارون ، وهو عمران بن نصير قاله مقاتل .

فعلى الأول آله عيسى ، قاله الحسن وعلى الثاني آله موسى وهارون ، قاله مقاتل .

وقيل : المراد بآل عمران عمران نفسه ، والظاهر في عمران أنه أبو مريم لقوله بعد { إذ قالت امرأة عمران } فذكر قصة مريم وابنها عيسى ، ونص على أن الله اصطفاها بقوله { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك } فقوله : { إذ قالت امرأة عمران } كالشرح لكيفية الاصطفاء ، لقوله : وآل عمران ، وصار نظير تكرار الاسم في جملتين ، فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول ، نحو : أكرم زيداً رجل صالح .

وإذا كان المراد بالثاني غير الأول ، كان في ذلك إلباس على السامع .

وقد رجح القول الآخر بأن موسى يقرن بإبراهيم كثيراً في الذكر ، ولا يتطرق الفهم إلى أن عمران الثاني هو أبو موسى وهارون ، وإن كانت له بنت تسمى مريم ، وكانت أكبر من موسى وهارون سناً ، للنص على أن مريم بنت عمران بن ماثان ولدت عيسى ، وأن زكريا كفل مريم أم عيسى ، وكان زكريا قد تزوج أخت مريم إمشاع ابنة عمران بن ماثان فكان يحيى وعيسى ابني خالة ، وبين العمرانين والمريمين أعصار كثيرة .

قيل : بين العمرانين ألف سنة وثمانمائة سنة .

والظاهر أن الآل من يؤول إلى الشخص في قرابة أو مذهب ، والظاهر أنه نص على هؤلاء هنا في الاصطفاء للمزايا التي جعلها الله تعالى فيهم .

وذهب قاضي القضاة بالأندلس : أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي ، رحمه الله ورضي عنه ، إلى أن ذكر آدم ونوح تضمن الإشارة إلى المؤمنين من بينهما ، وأن الآل الأتباع ، فالمعنى أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين ، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم ، ولأن الكلام في قصة بعضهم .

انتهى ما قال ملخصاً ، وقوله شبيه في المعنى بقول من تأول قوله آدم وما بعده على حذف مضاف ، أي : أن الله اصطفى دين آدم .

وروي معناه عن ابن عباس ، قال : المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان ، واختاره الفراء .

وقال التبريزي : هذا ضعيف ، لأنه لو كان ثَمَّ مضاف محذوف لكان : ونوح مجروراً ، لأن آدم محله الجر بالإضافة ، وهذا الذي قاله التبريزي ليس بشيء ، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته .

لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف ، فيلزم جر ما عطف عليه ، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف .

ألا ترى إلى قوله { واسأل القرية } وأما إقراره مجروراً فلا يجوز إلا بشرط ذكر في علم النحو .

{ على العالمين } متعلق باصطفى ، ضمنه معنى فضل ، فعداه بعلى .

ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن .

قيل : والمعنى على عالمي زمانهم ، واللفظ عام ، والمراد به الخصوص كما قال جرير :

ويضحى العالمون له عيالاً *** وقال الحطيئة :

أراح الله منك العالمينا *** وكما تؤول في { وأني فضلتكم على العالمين }

وقال القتبي : لكل دهر عالم ، ويمكن أين يخص بمن سوى هؤلاء ، ويكون قد اندرج في قوله : وآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون المعنى : إن هؤلاء فضلوا على من سواهم من العالمين .

واشتراكهم في القدر المشترك من التفضيل لا يدل على التساوي في مراتب التفضيل ، كما تقول : زيد وعمر وخال أغنياء ، فاشتراكهم في القدر المشترك من الغنى لا يدل على التساوي في مراتب الغنى ، وإذا حملنا : العالمين ، على من سوى هؤلاء ، كان في ذلك دلالة على تفضيل البشر على الملائكة ، لأنهم من سوى هؤلاء الصطفين ، وقد استدل بالآية على ذلك .

ولا يمكن حمل : العالمين ، على عمومه لأجل التناقض ، لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين ، يلزم كل واحد منهم أن يكون أفضل من الآخر ، وهو محال .

وقرأ عبد الله : وآل محمد على العالمين .

/خ37