الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (33)

قوله تعالى : " إن الله اصطفى آدم ونوحا " اصطفى اختار ، وقد تقدم في البقرة{[3007]} . وتقدم فيها اشتقاق آدم{[3008]} وكنيته ، والتقدير إن الله اصطفى دينهم وهو دين الإسلام ، فحذف المضاف . وقال الزجاج : اختارهم للنبوة على عالمي زمانهم . " ونوحا " قيل إنه مشتق من ناح ينوح ، وهو اسم أعجمي إلا أنه انصرف لأنه على ثلاثة أحرف ، وهو شيخ المرسلين ، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر القرابات ، ومن قال : إن إدريس كان قبله من المؤرخين فقد وهم على ما يأتي بيانه في

" الأعراف " {[3009]} إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : " وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " تقدم في البقرة معنى الآل وعلى ما يطلق مستوفى{[3010]} . وفي البخاري عن ابن عباس قال : آل إبراهيم وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد ، يقول الله تعالى : " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " [ آل عمران : 68 ] وقيل : آل إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم . وقيل : آل إبراهيم نفسه ، وكذا آل عمران ، ومنه قوله تعالى : " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " {[3011]} [ البقرة : 248 ] . وفي الحديث : ( لقد أعطي مزمارا من مزامير آل داود ) ، وقال الشاعر :

ولا تَبْكِ{[3012]} مَيْتاً بعد ميتٍ أَحِبّه *** عليٌّ وعباس وآل أبي بكر

وقال آخر :

يلاقي من تَذَكُّرِ آل ليلى *** كما يَلْقَى السَّلِيمُ من العِدَادِ{[3013]}

أراد من تذكر ليلى نفسها . وقيل : آل عمران آل إبراهيم ، كما قال : " ذرية بعضها من بعض " [ آل عمران : 34 ] . وقيل : المراد عيسى ؛ لأن أمه ابنة عمران . وقيل : نفسه كما ذكرنا . قال مقاتل : هو عمران أبو موسى وهارون ، وهو عمران بن يصهر بن فاهاث بن لاوى بن يعقوب . وقال الكلبي : هو عمران أبو مريم ، وهو من ولد سليمان عليه السلام . وحكى السهيلي : عمران بن ماتان ، وامرأته حنة ( بالنون ) . وخص هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء ؛ لأن الأنبياء والرسل بقضهم وقضيضهم من نسلهم . ولم ينصرف عمران ؛ لأن في آخره ألفا ونونا زائدتين . ومعنى قوله : " على العالمين " أي على عالمي زمانهم ، في قول أهل التفسير . وقال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي : جميع الخلق كلهم . وقيل " على العالمين " : على جميع الخلق كلهم إلى يوم الصور ، وذلك أن هؤلاء رسل وأنبياء فهم صفوة الخلق ، فأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جازت{[3014]} مرتبته الاصطفاء لأنه حبيب ورحمة . قال الله تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " {[3015]} [ الأنبياء : 107 ] فالرسل خلقوا للرحمة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق بنفسه رحمة ، فلذلك صار أمانا للخلق ، لما بعثه الله أمن الخلق العذاب إلى نفخة الصور . وسائر الأنبياء لم يحلوا هذا المحل ؛ ولذلك قال عليه السلام : ( أنا رحمة مهداة ) يخبر أنه بنفسه رحمة للخلق من الله . وقوله ( مهداة ) أي هدية من الله للخلق . ويقال : اختار آدم بخمسة أشياء : أولها : أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته ، والثاني : أنه علمه الأسماء كلها ، والثالث : أمر الملائكة بأن يسجدوا له ، والرابع : أسكنه الجنة ، والخامس : جعله أبا البشر . واختار نوحا بخمسة أشياء : أولها : أنه جعله أبا البشر ؛ لأن الناس كلهم غرقوا وصار ذريته هم الباقين ، والثاني : أنه أطال عمره ، ويقال : طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ،

والثالث : أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين ،

والرابع : أنه حمله على السفينة ،

والخامس : أنه كان أول من نسخ الشرائع ، وكان قبل ذلك لم يحرم تزويج الخالات والعمات .

واختار إبراهيم بخمسة أشياء :

أولها : أنه جعله أبا الأنبياء ؛ لأنه روى أنه خرج من صلبه ألف{[3016]} نبي من زمانه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ،

والثاني : أنه اتخذه خليلا ،

والثالث : أنه أنجاه من النار ،

والرابع : أنه جعله إماما للناس ،

والخامس : أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن .

ثم قال : " وآل عمران " فإن كان عمران أبا موسى وهارون ، فإنما اختارهما على العالمين حيث بعث على قومه المن والسلوى ، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم . وإن كان أبا مريم فإنه اصطفى له مريم بولادة عيسى بغير أب ، ولم يكن ذلك لأحد في العالم . والله أعلم .


[3007]:- راجع جـ2 ص 133.
[3008]:- راجع جـ1 ص 279.
[3009]:- راجع جـ7 ص 232.
[3010]:- راجع جـ1 ص 381.
[3011]:- راجع جـ3 ص 247.
[3012]:- في الأصول: "ولا تنس" والتصويب من تفسير ابن عطية، والبيت لأراكة بن عبد الله الثقفي في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم. أي أحبه علي وعباس وأبو بكر، ويريد جميع المؤمنين (ابن عطية) والذي يروى: أجنه: أي ستره في التراب.
[3013]:- العداد: اهتياج وجع اللديغ، وذلك إذا تمت له سنة مذ يوم لدغ هاج به الألم. وقيل: عداد السليم أن تعد له سبعة أيام فإن مضت رجوا له البرء، وما لم تمض قيل: هو في عداده.
[3014]:- في ب و د: حازت.
[3015]:- راجع جـ11 ص 350.
[3016]:- في هذا نظر لأن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا كما ورد في الخبر، أكثرهم من ذريته عليه السلام.