نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰٓ ءَادَمَ وَنُوحٗا وَءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ وَءَالَ عِمۡرَٰنَ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (33)

ولما كان الأصفياء أخص من مطلق الأحباب بين بعض الأصفياء{[16287]} وما أكرمهم به تصديقاً لقوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الشريف " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش{[16288]} بها ، ورجله التي يمشي بها " تنبيهاً لوفد نصارى نجران وغيرهم على أنه مثل ما اصطفى لنفسه ديناً اصطفى للتخلق به ناساً يحبونه ويطيعونه ويوالون أولياءه ويعادون أعداءه ، وليسوا{[16289]} من صفات الكافرين في شيء فقال - أو يقال : إنه سبحانه وتعالى لما شبه أفعاله في التشابه وغيره بأقواله وعرف أن الطريق الأقوم رد المتشابه منها إلى الواضح المحكم والالتجاء في كشف المشكل{[16290]} إليه مع الاعتقاد الجازم المستقيم ، وبين أن الموقف{[16291]} عن{[16292]} هذا الطريق الأقوم الوقوف مع العرض{[16293]} الدنيوي مع الرئاسة وغيرها وألف الدين مع التعلل فيه بالتمني{[16294]} الفارغ{[16295]} ، وأنهى ذلك وتوابعه إلى أن ختم بتهديد من تولى عن الحق أخذ في تصوير{[16296]} تصويره في الأرحام كيف شاء بما{[16297]} شوهد من ذلك ولم يشك فيه من أحوال أناس هم من خلص{[16298]} عباده المقبلين على ما يرضيه فقال : أو يقال ولعله أحسن :

ولما أخبر سبحانه وتعالى أن أهل الكتاب ما{[16299]} اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم فكفروا بذلك ، وألحق به ما تبعه{[16300]} إلى أن ختم بالأمر باتباع الرسول وبأنه لا يحب الكافرين بالتولي عن رسله اشتد تشوف النفس إلى معرفة الرسل الآتين{[16301]} بالعلم الذين توجب مخالفتهم الكفر فبينهم بقوله : وقال الحرالي : لما كان منزل هذه السورة لإظهار{[16302]} المحكم والمتشابه في الخلق والأمر قدم سبحانه وتعالى بين يدي إبانة متشابه خلق عيسى عليه الصلاة والسلام وجه الاصطفاء المتقدم للآدمية ومن منها من الذرية لتظهر{[16303]} معادلة خلق عيسى عليه الصلاة والسلام آخراً لمتقدم{[16304]} خلق آدم عليه الصلاة والسلام أولاً ، حتى يكونا مثلين محيطين بطرفي{[16305]} الكون في علو روحه{[16306]} ودنو{[16307]} أديم تربته{[16308]} وأنه سبحانه وتعالى نزل الروح إلى الخلق الآدمي كما قال ( ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون{[16309]} }[ الأنعام : 9 ] وظهر{[16310]} أثر ذلك اللبس بما وقع لأهل الزيغ في عيسى كما{[16311]} أنه رقى الخلق الطيني رتبة رتبة{[16312]} إلى كمال التسوية إلى أن نفخ فيه من روحه ، فكان ترقي الآدمي إلى النفخة لتنزل الروح إلى الطينة{[16313]} الإنسانية التي تم بها وجود عيسى عليه الصلاة والسلام كما كمل وجود آدم عليه الصلاة والسلام بالنفخة .

ولما كان أصل الإبداء نوراً علياً نزله الحق سبحانه وتعالى في رتب التطوير والتصيير والجعل{[16314]} إلى أن بدأ عالماً دنياوياً محتوياً على الأركان الأربعة والمواليد الثلاثة{[16315]} ، وخفيت نورانيته في موجود أصنافه{[16316]} صفي الله سبحانه وتعالى من وجود كلية ذلك هذا الخلق الآدمي فكان صفي الله ، فأنبأ الخطاب عن{[16317]} تصييره إلى الصفاء بالافتعال ؛ انتهى - فقال سبحانه وتعالى : { إن الله } أي بجلاله وعظمته وكماله في إحاطته وقدرته { اصطفى } أي للعلم والرسالة عنه سبحانه وتعالى إلى خلقه والخلافة له في ملكه{[16318]} { آدم } أباكم الأول الذي لا تشكون{[16319]} في أنه خلقه من تراب ، وهو تنبيه لمن غلط في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على أن أعظم ما استغربوا{[16320]} من عيسى كونه من غير ذكر ، وآدم أغرب{[16321]} حالاً منه بأنه ليس من ذكر ولا أنثى ولا من جنس الأحياء - كما سيأتي ذلك صريحاً بعد هذا التلويح لذي الفهم الصحيح .

قال الحرالي : فاصطفاه من كلية مخلوقه الذي أبداه{[16322]} ملكاً وملكوتاً خلقاً وأمراً ، وأجرى اسمه من أظهر {[16323]}ظاهره الأرضي{[16324]} وأدنى أدناه ، فسماه آدم من أديم الأرض ، على صيغة أفعل ، التي هي نهاية كمال الآدمية والأديمية . فكان مما أظهر تعالى في اصطفاء آدم ما ذكر جوامعه علي رضي الله عنه في قوله : لما خلق الله سبحانه وتعالى أبان فضله للملائكة وأراهم{[16325]} ما اختصه به من سابق العلم من حيث علمه عند استنبائه{[16326]} إياه أسماء الأشياء{[16327]} فجعل الله سبحانه وتعالى آدم محراباً وكعبة وباباً وقبلة ، أسجد{[16328]} له الأبرار والروحانيين الأنوار ، ثم نبه آدم على مستودعه وكشف له خطر ما ائتمنه عليه بعد أن سماه عند الملائكة إماماً ، فكان تنبيهه على خطر أمانته ثمرة اصطفائه - انتهى . { ونوحاً } أباكم الثاني الذي أخرجه من بين أبوين شابين على عادتكم المستمرة فيكم . وقال الحرالي : أنبأ تعالى أنه عطف لنوح عليه الصلاة والسلام اصطفاء على اصطفاء آدم ترقياً إلى كمال الوجود الآدمي وتعالياً إلى الوجود الروحي العيسوي ، فاصطفى نوحاً عليه الصلاة والسلام بما{[16329]} جعله أول رسول بتوحيده من حيث دحض{[16330]} الشرك وأقام كلمة الإيمان بقول " لا إله إلا الله " ، لما تقدم بين{[16331]} آدم ونوح من عبادة الأصنام والأوثان ، فكان هذا الاصطفاء اصطفاء باطناً{[16332]} لذلك الاصطفاء الظاهر فتأكد الاصطفاء وجرى{[16333]} من أهلكته طامة الطوفان مع نوح عليه الصلاة والسلام من الذر{[16334]} الآدمي مجرى تخليص الصفاوات من خثارتها{[16335]} ، و{[16336]} {[16337]}كما صفي{[16338]} آدم من الكون كله صفى نوحا عليه السلام وولده الناجين{[16339]} معه من مطرح الخلق الآدمي{[16340]} الكافرين الذين لا يلدون إلا فاجراً كفاراً ، فلم يكن فيهم{[16341]} ولا{[16342]} في مستودع ذراريهم صفاوة تصلح لمزية الإخلاص الذي اختص بصفوته نوح عليه الصلاة والسلام

وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح{[16343]} }[ الأحزاب : 7 ] فكان ميثاق نوح عليه السلام{[16344]} ما قام به من كلمة التوحيد ورفض الأصنام والطاغوت التي اتخذها الظلمانيون من ذر{[16345]} آدم ، فتصفى{[16346]} بكلمة التوحيد النوارانيون منه ، فكان نوح عليه الصلاة والسلام ومن نجا معه صفوة زمانه ، كما كان آدم صفوة حينه{[16347]} - انتهى .

ولما كان أكثر الأنبياء من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام زاد في تعظيمه{[16348]} بقوله{[16349]} : { وآل إبراهيم } أي{[16350]} الذين أوجد فيهم الخوارق ولا سيما في إخراج الولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لمثلهما ، وفي ذلك إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مثلهم لأنه أحدهم ، وكذا قوله : { وآل عمران } في قوله : { على العالمين * } إشارة إلى أنه كسائر{[16351]} أقاربه منهم ، وأفصح بذلك إفصاحاً جلياً في قوله :


[16287]:ي مد: الأنبياء.
[16288]:ن ظ ومد، وفي الأصل: تبطش.
[16289]:ن ظ ومد، وفي الأصل: ليس.
[16290]:ن ظ ومد، وفي الأصل: الشكل.
[16291]:ي ظ: الوقف.
[16292]:زيد من ظ ومد.
[16293]:ن ظ ومد، وفي الأصل: الفرض.
[16294]:من ظ ومد، وفي الأصل: بالتمن.
[16295]:ي ظ: النازع.
[16296]:زيد من ظ ومد.
[16297]:في ظ: كما.
[16298]:في ظ: خاص.
[16299]:زيد من ظ ومد.
[16300]:ن ظ ومد، وفي الأصل: يتبعه.
[16301]:ي ظ: تشوق.
[16302]:ي ظ: الابين.
[16303]:ن ظ ومد، وفي الأصل: تظهر.
[16304]:ن ظ ومد، وفي الأصل: لتقدم.
[16305]:ي ظ: في.
[16306]:ي ظ: درجة.
[16307]:ن ظ، وفي الأصل ومد: دنوا.
[16308]:ي ظ: ترييته، وفي مد: رتبته.
[16309]:ورة 6 آية 9.
[16310]:ي مد: فظهر.
[16311]:قط من ظ.
[16312]:سقط من ظ.
[16313]:ن ظ ومد، وفي الأصل: الطبعة.
[16314]:ي ظ: الحيل.
[16315]:ي الأصول: الثلاث.
[16316]:ي ظ: إضافة.
[16317]:ن ظ ومد، وفي الأصل: من.
[16318]:من ظ ومد، وفي الأصل: ملك.
[16319]:ي ظ: يشكون.
[16320]:ي جميع النسخ: استقربوا.
[16321]:في مد: أعزب.
[16322]:في أبراه.
[16323]:ي ظ: ظاهرة الأرض.
[16324]:ي ظ : لصلة الملائكة و أراه.
[16325]:ي ظ : لصلة الملائكة و أراه.
[16326]:ي ظ: استثنائه.
[16327]:ي ظ ومد، وفي الأصل: الأسماء.
[16328]:ن ظ ومد، وفي الأصل: سجد.
[16329]:ن مد، وفي الأصل وظ: مما.
[16330]:ن ظ ومد، وفي الأصل: وخص.
[16331]:ي ظ: من.
[16332]:ي ظ: باطلا.
[16333]:ن ظ ومد، وفي الأصل: حزى.
[16334]:ن ظ، وفي الأصل ومد: الدو.
[16335]:ي ظ: خساواتها.
[16336]:يد من ظ ومد.
[16337]:ي ظ: لما صغى.
[16338]:ي ظ: لما صغى.
[16339]:ي ظ: الناجي.
[16340]:يد من ظ ومد.
[16341]:ي ظ: كما.
[16342]:ي ظ: كما.
[16343]:ورة 33 آية 7.
[16344]:يد من ظ ومد.
[16345]:ن ظ، وفي الأًصل: درء، وفي مد: ذرا.
[16346]:ي ظ: فتصل ـ كذا.
[16347]:في ظ: حيه.
[16348]:في ظ: العظمة.
[16349]:يد بعده في ظ: قال.
[16350]:ي ظ: الذي.
[16351]:ي ظ: سائر.