{ الر } معناه : أنا الله أرى ، { تلك آيات الكتاب } ، أي : هذه آيات الكتاب ، { وقرآن } أي : وآيات قرآن ، { مبين } ، أي : بين الحلال من الحرام والحق من الباطل . فإن قيل : لم ذكر الكتاب ثم قال { وقرآن مبين } وكلاهما واحد ؟ قلنا : قد قيل كل واحد يفيد فائدة أخرى ، فإن الكتاب : ما يكتب ، والقرآن : ما يجمع بعضه إلى بعض . وقيل : المراد بالكتاب : التوراة والإنجيل ، وبالقرآن هذا الكتاب .
1- سورة الحجر ، هي السورة الرابعة عشرة في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فقد ذكر الزركشي والسيوطي أنها نزلت بعد سورة يوسف( {[1]} ) . . .
2- وسميت بسورة الحجر ، لورود هذا اللفظ فيها دون أن يرد في غيرها وأصحاب الحجر هم قوم صالح –عليه السلام- ، إذ كانوا ينزلون الحجر –بكسر الحاء وسكون الجيم- وهو المكان المحجور ، أي الممنوع أن يسكنه أحد غيرهم لاختصاصهم به .
ويجوز أن يكون لفظ الحجر ، مأخوذ من الحجارة ، لأن قوم صالح –عليه السلام- كانوا ينحتون بيوتهم من أحجار الجبال وصخورها ، ويبنون بناء محكما جميلاً .
قال –تعالى- حكاية عما قاله نبيهم صالح لهم – [ وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ]( {[2]} ) ومساكنهم مازالت آثارها باقية ، وتعرف الآن بمدائن صالح ، وهي في طريق القادم من المدينة المنورة إلى بلاد الشام أو العكس ، وتقع ما بين خيبر وتبوك . . .
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة . . .
قال الشوكاني : وهي مكية بالاتفاق . وأخرج النحاس في ناسخه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة الحجر بمكة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله " ( {[3]} ) .
وقد ذكر الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه السورة أنها مكية ، دون أن يذكر في ذلك خلافاً .
وقال الآلوسي : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير –رضي الله عنهم- أنها نزلت بمكة . وروى ذلك عن قتادة ومجاهد .
وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله –تعالى- [ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم ] وقوله –تعالى- [ كما أنزلنا على المقتسمين . الذين جعلوا القرآن عضين ]( {[4]} ) .
والحق أن السورة كلها مكية ، وسنبين –عند تفسيرنا للآيات التي قيل بأنها مدنية –أن هذا القول ليس له دليل يعتمد عليه .
4- ( أ ) وعندما نقرأ هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، نراها في مطلعها تشير إلى سمو مكانة القرآن الكريم ، وإلى سوء عاقبة الكافرين الذين عموا وصموا عن دعوة الحق . .
قال –تعالى- [ الر ، تلك آيات الكتاب وقرآن مبين . ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون . وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم . ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ] .
( ب ) ثم تخبرنا بعد ذلك بأن الله –تعالى- قد تكفل بحفظ كتابه ، وصيانته من أي تحريف أو تبديل ، وبأن المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم إنما يكذبونه عن عناد وجحود ، لا عن نقص في الأدلة الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم .
قال –تعالى- [ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين . وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون . كذلك نسلكه في قلوب المجرمين . لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين . ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون . لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ] .
( ج ) ثم نسوق السورة الكريمة بعد ذلك ألواناً من الأدلة على وحدانية الله وقدرته ، وعلى سابغ نعمه على عباده . . .
قال –تعالى- [ ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين . وحفظناها من كل شيطان رجيم . إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين . والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ] .
( د ) ثم حكت السورة قصة خلق آدم –عليه السلام- ، وتكليف الملائكة بالسجود له ، وامتثالهم جميعاً لأمر الله –سبحانه- ، وامتناع إبليس وحده عن الطاعة ، وصدور حكمه –سبحانه- بطرده من الجنة . . .
قال –تعالى- [ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون . والجان خلقناه من قبل من نار السموم . وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فسجد الملائكة كلهم أجمعون . إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ] . .
( ه ) ثم قصت علينا السورة الكريمة بأسلوب فيه الترغيب والترهيب ، وفيه العظة والعبرة ، جانباً من قصة إبراهيم ، ثم من قصة لوط ، ثم من قصة شعيب ، ثم من قصة صالح –عليهم الصلاة والسلام- . . .
قال –تعالى- : [ ونبئهم عن ضيف إبراهيم . إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلون . قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم . قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون . قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين . قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . قال فما خطبكم أيها المرسلون . قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين . إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين . إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ] .
( و ) ثم ختمت سورة الحجر بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه ، وأمرته بالصفح والعفو حتى يأتي الله بأمره ، وبشرته بأنه –سبحانه- سيكفيه شر أعدائه ، وبأنه سينصره عليهم . . .
قال –تعالى- : [ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل . إن ربك هو الخلاق العليم . ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم . لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم ، واخفض جناحك للمؤمنين ] .
ومن هذا العرض الإجمالي للسورة الكريمة ، نراها قد اهتمت اهتماماً واضحاً بتثبيت المؤمنين وتهديد الكافرين ، تارة عن طريق الترغيب والترهيب ، وتارة عن طريق قصص السابقين ، وتارة عن طريق التأمل في هذا الكون وما اشتمل عليه من مخلوقات تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته وسابغ رحمته . . .
سورة الحجر من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجى { الر } .
وقد بينا - بشئ من التفصيل - عند تفسيرنا لسورة : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف . . . آراء العلماء في هذه الحروف التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم .
وقلنا ما خلاصته : من العلماء من يرى أن المعنى المقصود منها غير معروف لأنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . . .
ومنهم من يرى أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه ، بل هي أسماء للسور التي افتتحت بها . . . أو هي حروف مقطعة بعضها من أسماء الله ، وبعضها من صفاته . . .
ثم قلنا : ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور ؛ للإِشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل .
وفضلاً عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة ، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإِنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجارى كلامهم وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكماً وهدايات قد تكون سبباً في استجابتهم للحق ، كما استجاب صالحو الجن الذين حكى الله - تعالى - عنهم أنهم عندما استمعوا إلى القرآن قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً . . . . } واسم الإِشارة { تلك } يعود إلى الآيات التي تضمنتها هذه السورة ، أو إلى جميع الآيات القرآنية التي نزلت قبل ذلك .
والمراد بالكتاب : القرآن الكريم ، ولا يقدح في هذا ، ذكر لفظ القرآن بعده ، لأنه - سبحانه - جمع له بين الاسمين تفخيماً لشأنه ، وتعظيماً لقدره .
و { مبين } اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان ، مبالغة في الوضوح والظهور .
قال صاحب الصحاح : يقال : " بان الشئ يبين بيانا ، أى اتضح ، فهو بين وكذا أبان الشئ فهو مبين . . . " .
والمعنى : تلك - أيها الناس - آيات بينات من الكتاب الكامل في جنسه ، ومن القرآن العظيم الشأن ، الواضح في حكمه وأحكامه ، المبين في هدايته وإعجازه فأقبلوا عليها بالحفظ لها ، وبالعمل بتوجيهاتها ، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم .
قال الآلوسى : " وفى جمع وصفى الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه ، حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإِلهية فكأنه كلها ، وبالثانى إلى كونه ممتازاً عن غيره ، نسيجا وحده ، بديعاً في بابه ، خارجاً عن دائرة البيان ، قرآناً غير ذى عوج
القول في تأويل قوله تعالى : { الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مّبِينٍ } .
أما قوله جلّ ثناؤه ، وتقدّست أسماؤه الر ، فقد تقدم بيانها فيما مضى قبل . وأما قوله : تِلْكَ آياتُ الكِتابِ فإنه يعني : هذه الاَيات ، آيات الكتب التي كانت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل . وقُرآنٍ يقول : وآيات قرآن مُبِينٍ يقول : يُبِين من تأمله وتدبّره رشدَه وهداه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقُرآنٍ مُبِينٍ قال : تبين والله هداه ورشده وخيره .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : الر فواتح يفتتح بها كلامه . تِلْكَ آياتُ الكِتابِ قال : التوراة والإنجيل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله : الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ قال : الكتُب التي كانت قبل القرآن .
سميت هذه السورة الحجر ، ولا يعرف لها اسم غيره . ووجه التسمية أن اسم الحجر لم يذكر في غيرها .
والحجر اسم البلاد المعروفة به وهو حجر ثمود . وثمود هم أصحاب الحجر . وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى { ولقد كذب أصحاب الحجر } . والمكتبون في كتاتيب تونس يدعونها سورة { ربما } لأن كلمة { ربما } لم تقع في القرآن كله إلا في أول هذه السورة .
وهي مكية كلها وحكي الاتفاق عليه .
وعن الحسن استثناء قوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } بناء على أن سبعا من المثاني هي سورة الفاتحة وعلى أنها مدنية . وهذا لا يصح لأن الأصح أن الفاتحة مكية .
واستثناء قوله تعالى { كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين } بناء على تفسيرهم { المقتسمين } بأهل الكتاب وهو صحيح ، وتفسير { جعلوا القرآن عضين } أنهم قالوا : ما وافق منه كتابنا فهو صدق وما خالف كتابنا فهو كذب . ولم يقل ذلك إلا يهود المدينة ، وهذا لا نصححه كما نبينه عند الكلام على تلك الآية .
ولو سلم هذا التفسير من جهتيه فقد يكون لأن اليهود سمعوا القرآن قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل فقالوا ذلك حينئذ ، على أنه قد روي أن قريشا لما أهمهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم استشاروا في أمره يهود المدينة .
وقال في الاتفاق ينبغي استثناء قوله { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وأنها في صفوف الصلاة اهـ .
وهو يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي من طريق نوح بن قيس الجذامي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر أي من صفوف الرجال فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } . قال الترمذي ورواه جعفر بن سليمان ولم يذكر ابن عباس . وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح اهـ . وهذا توهين لطريق نوح .
قال ابن كثير في تفسيره : وهذا الحديث فيه نكارة شديدة . والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر ، فلا اعتماد إلا على حديث جعفر بن سليمان وهو مقطوع .
وعلى تصحيح أنها مكية فقد عدت الرابعة والخمسين في عدد نزول السور ؛ نزلت بعد سورة يوسف وقبل سورة الأنعام .
ومن العجيب اختلافهم في وقت نزول هذه السورة وهي مشتملة على آية { فاصدع بما تؤمر } وقد نزلت عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم في آخر السنة الرابعة من بعثته .
وعدد آيها تسع وتسعون باتفاق العادين .
افتتحت بالحروف المقطعة التي فيها تعريض بالتحدي بأعجاز القرآن .
وعلى التنويه بفضل القرآن وهديه .
وإنذار المشركين بندم يندمونه على عدم إسلامهم .
وتوبيخهم بأنهم شغلهم عن الهدى انغماسهم في شهواتهم .
وإنذارهم بالهلاك عند حلول إبان الوعيد الذي عينه الله في علمه .
وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم إيمان من لم يؤمنوا ، وما يقولونه في شأنه وما يتوركون بطلبه منه ، وأن تلك عادة المكذبين مع رسلهم .
وأنهم لا تجدي فيهم الآيات والنذر لو أسعفوا بمجيء آيات حسب اقتراحهم به وأن الله حافظ كتابه من كيدهم .
ثم إقامة الحجة عليهم بعظيم صنع الله وما فيه من نعم عليهم .
وانتقل إلى خلق نوع الإنسان وما شرف الله به هذا النوع .
ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر .
وختمت بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وانتظار ساعة النصر ، وأن يصفح عن الذين يؤذونه ، ويكل أمرهم إلى الله ، ويشتغل بالمؤمنين ، وأن الله كافيه أعداءه .
مع ما تخلل ذلك من الاعتراض والإدماج من ذكر خلق الجن ، واستراقهم السمع ، ووصف أحوال المتقين ، والترغيب في المغفرة ، والترهيب من العذاب .
تقدم الكلام على نظير فاتحة هذه السورة في أول سورة يونس .
وتقدم في أول سورة البقرة ما في مثل هذه الفواتح من إعلان التحديد بإعجاز القرآن .
{ تلك ءايات الكتاب وقرآن مبين }
الإشارة إلى ما هو معروف قبل هذه السورة من مقدار ما نزل بالقرآن ، أي الآيات المعروفة عندكم المتميزة لديكم تميزاً كتميز الشيء الذي تمكن الإشارة إليه هي آيات الكتاب . وهذه الإشارة لتنزيل آيات القرآن منزلة الحاضر المشاهد .
و { الكتاب } علم بالغلبة على القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للهدى والإرشاد إلى الشريعة . وسمي كتاباً لأنهم مأمورون بكتابة ما ينزل منه لحفظه ومُراجعته ؛ فقد سمي القرآن كتاباً قبل أن يُكتب ويجمع لأنه بحيث يكون كتاباً .
ووقعت هذه الآية في مفتتح تهديد المكذبين بالقرآن لقصد الإعذار إليهم باستدعائهم للنظر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة دينه .
ولمّا كان أصل التعريف باللام في الاسم المجعول علماً بالغلبة جائياً من التوسل بحرف التعريف إلى الدلالة على معنى كمالِ الجنس في المعرف به لم ينقطع عن العلَم بالغلَبة أنه فائق في جنسه بمعونة المقام ، فاقتضى أن تلك الآيات هي آيات كتاب بالغ منتهى كمال جنسه ، أي من كتب الشرائع .
وعطف { وقرآن } على { الكتاب } لأن اسم القرآن جعل علماً على ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والتشريع ، فهو الاسم العلَم لكتاب الإسلام مثل اسم التوراة والإنجيل والزبور للكتب المشتهرة بتلك الأسماء .
فاسم القرآن أرسخ في التعريف به من الكتاب لأن العلَم الأصلي أدخل في تعريف المسمى من العلَم بالغلبة ، فسواء نكّر لفظ القرآن أو عرف باللام فهو علم على كتاب الإسلام . فإن نكّر فتنكيره على أصل الأعلام ، وإن عُرّف فتعريفه لِلَمْح الأصل قبل العلمية كتعريف الأعلام المنقولة من أسماء الفاعلين لأن « القرآن » منقول من المصدر الدال على القراءة ، أي المقروء الذي إذا قرىء فهو منتهى القراءة .
وفي التسمية بالمصدر من معنى قوة الاتصاف بمادة المصدر ما هو معلوم .
وللإشارة إلى ما في كل من العلمين من معنى ليس في العلم الآخر حسن الجمع بينهما بطريق العطف ، وهو من عطف ما يعبر عنه بعطف التفسير لأن « قرآن » بمنزلة عطف البيان من « كتاب » وهو شبيه بعطف الصفة على الموصوف ومَا هو منه ، ولكنه أشبهه لأن المعطوف متبوع بوصف وهو { مبين } . وهذا كله اعتبار بالمعنى .
وابتُدىء بالمعرّف باللام لما في التعريف من إيذان بالشهرة والوضوح وما فيه من الدلالة على معنى الكمال ، ولأن المعرّف هو أصل الإخبار والأوصاف . ثم جيء بالمنكر لأنه أريد وصفه بالمبين ، والمنكّر أنسب بإجراء الأوصاف عليه ، ولأن التنكير يدل على التفخيم والتعظيم ، فوزعت الدلالتان على نكتة التعريف ونكتة التنكير .
فأما تقديم الكتاب على القرآن في الذكر فلأن سياق الكلام توبيخ الكافرين وتهديدهم بأنهم سيجيء وقت يتمنون فيه أن لو كانوا مؤمنين . فلما كان الكلام موجهاً إلى المنكرين ناسب أن يستحضر المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم بعنوانه الأعم وهو كونه كتاباً ، لأنهم حين جادلوا ما جادلوا إلا في كتاب فقالوا : { لَوْ أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 157 ] ولأنهم يعرفون ما عند الأمم الآخرين بعنوان كتاب ، ويعرفونهم بعنوان أهل الكتاب .
فأما عنوان القرآن فهو مناسب لكون الكتاب مقروءاً مدروساً وإنما يقرأه ويدرسه المؤمنون به . ولذلك قدم عنوان القرآن في سورة النمل كما سيأتي .
والمبين : اسم فاعل من أبان القاصر الذي هو بمعنى بَان مبالغة في ظهوره ، أي ظهور قُرآنيته العظيمة ، أي ظهور إعجازه الذي تحققه المعاندون وغيرهم .
وإنما لم نجعل المبين بمعنى أبان المتعدي لأن كونه بيّنا في نفسه أشد في توبيخ منكريه من وصفه بأنه مظهر لما اشتمل عليه . وسيجيء قريب من هذه الآية في أول سورة النمل .