قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } . نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، ومعتب بن قشير ، وجد بن قيس وأصحابهم حيث أظهروا كلمة الإسلام ليسلموا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود ، والناس جمع إنسان سمي به لأنه عهد إليه فنسي كما قال الله تعالى ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ) وقيل لظهوره من قولهم : آنست أي أبصرت ، وقيل لأنه يستأنس به
ثم ابتدأ القرآن بعد ذلك حديثه عن طائفة ثالثة ليس عندها إخلاص المتقين ، وليس لديها صراحة الكافرين ، وإنما هي طائفة قلقة مذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك ، تلك الطائفة الثالثة هي طائفة المنافقين الذين فضحهم القرآن . وأماط اللئام عن خفاياهم وخداعهم فقال :
{ وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر . . . }
قال صاحب الكشاف : " افتتح - سبحانه - كتابه بذكر الذين أخلصوا دينهم الله ، وواطأت قلوبهم ألسنتهم ، ووافق سرهم علنهم ، وفعلهم قولهم ، ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً ، قلوباً وألسنة ، ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا . وهم الذين قال فيهم : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } وسماهم المنافقين وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده ، لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً ، وبالشرك استهزاء وخداعاً ، ولذلك أنزل فيهم : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } ووصف حال الذين كفروا في آيتين ووصف حال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ، ومكرهم وفضحهم ، وسفههم ، واستجهلهم ، واستهزأ بهم ، وتهكم بفعلهم ، وسجل طغيانهم ، ودعاهم صما بكما عميا ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة . وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا ، كما تعطف الجملة على الجملة " .
والناس : اسم لجماعة الإِنس : قال القرطبي : " واختلف النحاة في لفظ الناس فقيل : هو من أسماء الجموع ، جمع إنسان وإنسانه على غير اللفظ ، وتصغيره نويس ، فالناس من النوس وهو الحركة ، يقال : ناس ، ينوس أي : تحرك . وقيل : أصله نسى ، فأصل ناس نسى ، قلب فصار نيس ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً ، ثم دخلت الألف واللام فقيل : الناس ، قال ابن عباس : نسى آدم عهد الله فسمى إنساناً . وقيل : سمى إنساناً لأنسه بربه ، قال الشاعر :
وما سمى الإنسان إلا لأنسه . . . ولا القلب إلا أنه يتقلب
واليوم الآخر : هو اليوم الذي يبتدئ بالبعث ولا ينقطع أبداً ، وقد يراد منه اليوم الذي يبتدئ بالبعث وينتهي باستقرار أهل الجنة في الجنة . وأهل النار في النار .
وقال القرآن في شأن المنافقين { وَمِنَ الناس } مجرداً إياهم من الوصفين السابقين ، وصف الإيمان ووصف الكفر ، لأنهم لم يكونوا بحسب ظاهر الأمر مع الكافرين ، ولا بحسب باطنه مع المؤمنين ، لذا عبر عنهم بالناس لينطبق التعبير على ما حاولوه لأنفسهم من أتهم لا هم مؤمنون ولا هم كافرون وفي ذلك مبالغة في الحط من شأنهم فهم لم يخرجوا عن كونهم ناساً فقط ، دون أن يصلوا بأوصافهم إلى أهل اليمين أو إلى أهل الشمال الصرحاء في كفرهم ، بل بقوا في منحدر من الأرض ، لا يمر بهم سالك الطريق المستقيم ولا سالك المعوج من الطرق .
وعبر القرآن بلفظ { يَقُولُ آمَنَّا } ليفيد أنه مجرد قول باللسان ، لا أثر له في القلوب ، وإنما هم يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم . وحكى القرآن عن هؤلاء المنافقين أنهم اقتصروا في إظهار الإيمان على ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ، ليزيدوا في التمويه على المؤمنين بإدعاء أنهم أحاطوا بالإيمان من طرفيه ، لأن من يؤمن بالله واليوم الآخر ، استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن من شأنه أن يكون - أيضا - مؤمناً برسل الله وملائكته وكتبه .
وقد كذبهم الله - تعالى - في دعواهم الإِيمان ، فقال : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } .
فهذه الجملة الكريمة رد لما ادعوه من الإِيمان ، ونفى له على أبلغ وجه ، إذ جاء النفي مؤكداً بالباء في قوله { بِمُؤْمِنِينَ } . ثم إن الجملة نفت عنهم الإِيمان على سبيل الإِطلاق ، فهم ليسوا بمؤمنين لا بالله ولا باليوم الآخر ، ولا بكتب الله ولا برسله ولا بملائكته .
{ وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }
قال أبو جعفر : أما قوله : وَمِنَ النّاسِ فإن في الناس وجهين : أحدهما أن يكون جمعا لا واحد له من لفظه ، وإنما واحده إنسان وواحدته إنسانة . والوجه الاَخر : أن يكون أصله «أُناس » أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها ، ثم دخلتها الألف واللام المعرّفتان ، فأدغمت اللام التي دخلت مع الألف فيها للتعريف في النون ، كما قيل في : لكنّ هُوَ اللّهُ رَبي على ما قد بينا في اسم الله الذي هو الله .
وقد زعم بعضهم أن الناس لغة غير أناس ، وأنه سمع العرب تصغره نُوَيْس من الناس ، وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير : أُنَيْس ، فردّ إلى أصله .
وأجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل النفاق ، وأن هذه الصفة صفتهم . ذكر بعض من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنينَ يعني المنافقين من الأوس والخزرج ، ومن كان على أمرهم . وقد سُمّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب ، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم .
حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ وَما هُم بِمُؤْمِنِينَ حتى بلغ : فَمَا رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كَانُوا مُهْتَدِينَ قال : هذه في المنافقين .
حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هذه الآية إلى ثلاث عشرة في نعت المنافقين .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد مثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن إسماعيل السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، وعن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَمِنَ الناسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمؤْمِنِينَ هم المنافقون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ إلى : فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرضا وَلَهُمُ عَذَابٌ ألِيمٌ قال : هؤلاء أهل النفاق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ قال : هذا المنافق يخالف قولُه فعلَه وسرّه علانيَته ومدخلُه مخرجَه ومشهدُه مغيَبه .
وتأويل ذلك أن الله جل ثناؤه لمّا جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمره في دار هجرته واستقر بها قرارُه وأظهر الله بها كلمته ، وفشا في دور أهلها الإسلام ، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان ، وذلّ بها من فيها من أهل الكتاب أظهر أحبار يهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضغائن وأبدوا له العداوة والشنآن حسدا وبغيا إلا نفرا منهم ، هداهم الله للإسلام فأسلموا ، كما قال الله جل ثناؤه : وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَردّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمانِكُمْ كُفّارا حَسَدا منْ عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمْ الحَقّ وطابقهم سرّا على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبغيهم الغوائل قومٌ من أراهط الأنصار الذي آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وكانوا قد عتوا في شركهم وجاهليتهم قد سُمّوا لنا بأسمائهم ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم . وظاهروهم على ذلك في خفاء غير جهار حذار القتل على أنفسهم والسباء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وركونا إلى اليهود ، لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام . فكانوا إذا لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه ، قالوا لهم حذارا على أنفسهم : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبعث ، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحق ليدرءوا عن أنفسهم حكم الله فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم ، وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشرك والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به فخلوا بهم ، قالوا : إنّا مَعَكُمْ إنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ فإياهم عنى جل ذكره بقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ وَباليَوْمِ الاَخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يعني بقوله تعالى خبرا عنهم «آمّنا بالله » : صدقنا بالله . وقد دللنا على أن معنى التصديق فيما مضى قبل من كتابنا هذا . وقوله : وَباليَوْمِ الاَخرِ يعني بالبعث يوم القيامة . وإنما سُمِي يوم القيامة اليوم الاَخر : لأنه آخر يوم ، لا يوم بعده سواه .
فإن قال قائل : وكيف لا يكون بعده يوم ، ولا انقطاع للاَخرة ، ولا فناء ، ولا زوال ؟ .
قيل : إن اليوم عند العرب إنما سمي يوما بليلته التي قبله ، فإذا لم يتقدم النهار ليل لم يسمّ يوما ، فيوم القيامة يوم لا ليل له بعده سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة ، فذلك اليوم هو آخر الأيام ، ولذلك سماه الله جل ثناؤه : اليَوْم الاَخر ، ونعته بالعقيم ، ووصفه بأنه يوم عقيم لأنه لا ليل بعده .
وأما تأويل قوله : : وَما هُمْ بِمُؤْمنينَ ونفيه عنهم جل ذكره اسم الإيمان ، وقد أخبر عنهم أنهم قد قالوا بألسنتهم آمنّا بالله وباليوم الاَخر فإن ذلك من الله جل وعز تكذيب لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث ، وإعلام منه نبيه صلى الله عليه وسلم أن الذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم ، وضد ما في عزائم نفوسهم . وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية من أن الإيمان هو التصديق بالقول دون سائر المعاني غيره . وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق أنهم بألسنتهم : آمَنّا باللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخرِ ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك . وقوله : وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يعني بمصدقين فيما يزعمون أنهم به مصدقون .