إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ} (8)

{ وَمِنَ الناس } شروع في بيان أن بعضَ من حُكيتْ أحوالُهم السالفة ليسوا بمقتصِرين على ما ذكر من محض الإصرارِ على الكفر والعناد ، بل يضُمّون إليه فنوناً أُخَرَ من الشر والفساد ، وتعديدٌ لجناياتهم الشنيعةِ المستتبعة لأحوال هائلةٍ عاجلة وآجلة ، وأصلُ ناسٍ أُناسٌ ، كما يشهد له إنسانٌ وأناسيُّ وإنسٌ ، حُذفت همزته تخفيفاً كما قيل : لوقة في ألوقة ، وعُوّض عنها حرفُ التعريف ، ولذلك لا يُكاد يُجمع بينهما ، وأما في قوله : [ مجزوء الكامل ]

إن المنايا يطَّلِعْ *** نَ على الأُناسِ الآمنينا{[20]}

فشاذ ، سموا بذلك لظهورهم وتعلُّقِ الإيناسِ بهم كما سُمّي الجنُ جناً لاجتنانهم . وذهب بعضُهم إلى أن أصلَه النَّوَسُ وهو الحركة ، انقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وبعضُهم إلى أنه مأخوذ من نِسيَ ، نقلت لامه إلى موضع العين فصار نَيَساً ، ثم قلبت ألفاً ، سُمّوا بذلك لنسيانهم ، ويُروى عن ابن عباس أنه قال : سُمي الإنسانُ إنساناً لأنه عُهد إليه فنِسي ، واللام فيه إما للعهد ، أو للجنس المقصور على المُصرّين حسبما ذكر في الموصول ، كأنه قيل : ومنهم أو من أولئك ، والعدولُ إلى الناس للإيذان بكثرتهم ، كما ينبىء عنه التبعيضُ ، ومحلُ الظرف الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبار مضمونِه ، أو نعتٌ لمبتدإٍ ، كما في قوله عز وجل : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن ، الآية 11 ] أي وجمعٌ منا الخ ، ومن في قوله تعالى : { مَن يِقُولُ } موصولة أو موصوفة ، ومحلُها الرفعُ على الخبرية ، والمعنى وبعضُ الناس ، أو وبعضٌ من الناس الذي يقول ، كقوله تعالى : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي } [ التوبة ، الآية 61 ] الآية ، أو فريق يقول ، كقوله تعالى : { مّنَ المؤمنين رِجَالٌ } [ الأحزاب ، الآية 23 ] الخ ، على أن يكون مناطُ الإفادةِ والمقصودُ بالأصالة اتصافُهم بما في حيز الصلة أو الصفة ، وما يتعلق به من الصفات جميعاً ، لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورين .

وأما جعلُ الظرف خبراً كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال فيأباه جزالةُ المعنى ، لأن كونَهم من الناس ظاهرٌ ، فالإخبارُ به عارٍ عن الفائدة كما قيل ، فإن مبناه توهمُ كونِ المرادِ بالناس الجنسَ مطلقاً ، وكذا مدارُ الجواب عنه بأن الفائدةَ هو التنبيهُ على أن الصفاتِ المذكورةَ تنافي الإنسانية ، فحقُّ من يتصفُ بها ألا يُعلمَ كونُه من الناس ، فيُخبَرَ به ويُتعجَّبَ منه ، وأنت خبير بأن الناسَ عبارة عن المعهودين ، أو عن الجنس المقصور على المصرّين ، وأياً ما كان فالفائدةُ ظاهرة ، بل لأن خبريةَ الظرف تستدعي أن يكون اتصافُ هؤلاء بتلك الصفاتِ القبيحةِ المفصَّلة في ثلاثَ عشْرةَ آيةٍ عنواناً للموضوع مفروغاً عنه ، غيرَ مقصودٍ بالذات ، ويكونُ مناطَ الإفادة كونُهم من أولئك المذكورين ، ولا ريب لأحدٍ في أنه يجب حملُ النظم الجليلِ على أجزلِ المعاني وأكملِها ، وتوحيدُ الضمير في ( يقول ) باعتبار لفظةِ ( مَن ) ، وجمعُه في قوله : { آمنا بالله وباليوم الآخر } وما بعده باعتبار معناها ، والمرادُ باليوم الآخِرِ من وقت الحشرِ إلى ما لا يتناهى ، أو إلى أن يدخُلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ ، إذ لا حدَّ وراءه ، وتخصيصُهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباءِ لادعاء أنهم قد حازوا الإيمانَ من قُطريه ، وأحاطوا به من طرفيه ، وأنهم قد آمنوا بكلَ منهما على الأصالة والاستحكام ، وقد دسوا تحته ما هم عليه من العقائد الفاسدة حيث لم يكن إيمانُهم بواحد منهما إيماناً في الحقيقة ، إذ كانوا مشركين بالله بقولهم : { عُزَيْزٌ ابن الله } [ التوبة ، الآية 30 ] وجاحدين باليوم الآخر بقولهم : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } [ البقرة ، الآية 80 ] ونحو ذلك ، وحكايةُ عبارتهم لبيان كمالِ خبثهم ودعارتِهم ، فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخِداعِ والنفاقِ وعقيدتُهم عقيدتُهم لم يكن ذلك إيماناً ، فكيف وهم يقولونه تمويهاً على المؤمنين واستهزاءً بهم ! { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ردٌّ لما ادعَوْه ونفيٌ لما انتحلوه . وما حجازية ، فإن جوازَ دخولِ الباء في خبرها لتأكيد النفي اتفاقيٌّ بخلاف التميمية ، وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية الموافقةِ لدعواهم المردودةِ للمبالغة في الرد بإفادة انتفاءِ الإيمانِ عنهم في جميع الأزمنة لا في الماضي فقط كما يفيده الفعلية . ولا يُتوهمَن أن الجملة الاسمية الإيجابية تفيد دوام الثبوت ، فعند دخول النفي عليها يتعين الدلالة على نفي الدوام ، فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفي قطعاً ، كما أن المضارع الخاليَ عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع ، لا على امتناع الاستمرار ، كما في قوله عز وجل : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِي إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس ، الآية 11 ] فإن عدم قضاءِ الأجل لاستمرار عدم التعجيل لا لعدم استمرارِ التعجيل ، وإطلاقُ الإيمان عما قيدوه به للإيذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان في شيء أصلاً ، فضلاً عن الإيمان بما ذكروا ، وقد جُوز أن يكون المراد ذلك ، ويكون الإطلاق للظهور ، ومدلولُ الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان ، واعتقادُه بخلافه ، لا يكون مؤمناً ، فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوّه بكلمتي الشهادة - فارغَ القلب عما يوافقه أو ينافيه - مؤمنٌ .


[20]:وهو لذي جدن الحميري في خزانة الأدب 2/280، 282، 285، 288. وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/312 وجواهر الأدب ص 313 والخصائص 3/151 وشرح المفصل 2/9، 5/121 والشاهد فيه قوله "الأناس" حيث اجتمع فيه أل والهمزة وهذا لا يكون إلا في الشعر والقياس: الناس فإن أصله أناس فحذفت الهمزة وعوض عنها "أل" إلا أنها ليست لازمة إذ يقال في السعة: "ناس".