نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ} (8)

ولما افتتح سبحانه بالذين واطأت قلوبهم ألسنتهم في الإيمان وثنى بالمجاهرين من الكافرين{[662]} الذين طابق إعلانهم إسرارهم في الكفران اتبعه ذكر المساترين الذين خالفت ألسنتهم قلوبهم في الإذعان وهم المنافقون ، وأمرهم أشد لإشكال أحوالهم والتباس أقوالهم وأفعالهم ، فأضر الأعداء من يريك الصداقة فيأخذك من المأمن ؛ وما أحسن ما ينسب إلى الإمام أبي سليمان الخطابي في المعنى :

تحرّز من الجهال جهدك أنهم *** وإن أظهروا فيك المودة أعداء{[663]}

وإن كان فيهم من يسرك فعله *** فكل لذيذ الطعم أوجله داء

لا جرم ثنى سبحانه بإظهار أسرارهم وهتك أستارهم في سياق شامل لقسميهم ، فقبح أمورهم ووهّى مقاصدهم وضرب لهم الأمثال وبسط لهم بعض البسط في المقال فقال تعالى : { ومن الناس{[664]} } أي لما أرسلنا رسولنا انقسم الناس قسمين : مؤمن وكافر ، وانقسم الكافر قسمين : فمنهم من جاهر وقال : لا نؤمن أبداً ، ومنهم من يقول ، ولعله أظهر ولم يضمر لانفرادهم عن المجاهرين ببعض الأحكام ، أو لأنه سبحانه لما ذكر طرفي الإيمان والكفر وأحوال المؤمنين وأحوال الذين كفروا ذكر المنافقين المترددين بين الاتصاف بالطرفين بلفظ الناس لظهور معنى النوس فيهم لاضطرابهم بين الحالين ، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء كالخيط المعلق الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله{[665]} فلا يزال مضطرباً{[666]} بين جهتين ، ولم يظهر هذا المعنى في الفريقين لتحيزهم إلى جهة واحدة . قاله الحرالي ، وعرف للجنس{[667]} أو للعهد في الذين كفروا لأنهم نوع منهم ، وسر الإظهار موضع الإضمار على هذا ما تقدم ، { آمنا بالله } أي وحده بما{[668]} له من الجلال والجمال مستحضرين لذلك ، ولما كانوا متهمين أكدوا بإعادة الجار فقالوا : { وباليوم الآخر } الذي جحده المجاهرون ، { وما هم بمؤمنين } أي بعريقين في الإيمان كما ادعوه بذكر الاسم الأعظم وإعادة الجار ، ولعله نفى العراقة فقط لأن منهم من كان مُزَلزلاً حين هذا القول غير جازم بالكفر وآمن بعد ذلك ، وحذف متعلق الإيمان تعميماً في السلب عنهم لما ذكروا وغيره ، وجمع هنا وأفرد في [ يقول ] تنبيهاً على عموم الكفر لهم كالأولين وقلة من يسمح{[669]} منهم بهذا القول إشارة إلى غلظتهم وشدة عثاوتهم{[670]} في الكفر وقوتهم .

وفي ذكر قصتهم وتقبيح أحوالهم تنبيه على وجوب الإخلاص وحث على الاجتهاد في الطهارة من الأدناس في سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم .

وتصنيف الناس آخر الفاتحة ثلاثة أصناف : مهتدين ومعاندين وضالين ، مثل تصنيفهم أول البقرة ثلاثة : متقين وكافرين مصارحين وهم المعاندون وضالين وهم المنافقون ، وإجمالهم في الفاتحة وتفصيلهم هنا من بديع الأساليب وهو دأب القرآن العظيم الإجمال ثم التفصيل .

وقد سمى ابن إسحاق كثيراً من المنافقين{[671]} في السيرة الشريفة في أوائل أخبار ما بعد الهجرة{[672]} ، قال ابن هشام في تلخيص ذلك : وكان ممن انضاف إلى يهود ممن سمي لنا من المنافقين من الأوس والخزرج ، من الأوس زوي بن الحارث وبجاد بن عثمان ابن عامر ونبتل بن الحارث وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم . " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ! وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث إليه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين ، وهو الذي قال : إنما محمد أذن " وعباد بن حنيف أخو سهل وعمرو بن خذام{[673]} وعبد الله بن نبتل وبَحْزَج وهو ممن كان بنى مسجد الضرار وكذا جارية{[674]} بن عامر ابن العطاف وابنه زيد وخذام{[675]} بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره ومِرْبع بن قيظي وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عامد إلى أحد : لا أحل لك يا محمد إن كنت نبياً أن تمر في حائطي{[676]} ! فابتدره المسلمون ليقتلوه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال " هذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر " ، وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال يوم الخندق " إن بيوتنا عورة{[677]} " وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخاً جسيماً قد عسى في الجاهلية وكان ابنه يزيد{[678]} من خيار المسلمين ، قتل رضي الله عنه يوم أحد فقال أبوه لمن بشره بالجنة : غررتم والله هذا المسكين من نفسه ! وبشير بن أبيرق{[679]} أبو طعيمة . وفي نسخة : طعمة{[680]} ، وهو سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه

{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم{[681]} }[ النساء :107 ] وقزمان{[682]} حليف لهم أجاد يوم أحد القتال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول{[683]} : " إنه من أهل النار ، فجرح فبشر بالجنة فقال : والله ما قاتلت إلا حمية لقومي{[684]} ! فلما اشتدت به الجراحة قطع رواهش{[685]} يده فمات " .

ومن الخزرج رافع بن وديعه وزيد بن عمرو وعمرو بن قيس وقيس بن عمرو بن سهل {[686]}والجد بن قيس{[687]} وهو الذي قال : " ائذن لي ولا تفتني{[688]} " {[689]}وعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وإليه كانوا يجتمعون وهو القائل

{ ليخرجن الأعز منها الأذل{[690]} }[ المنافقون : 8 ] وفيه وفي وديعة العوفي{[691]} ومالك بن أبي فوقل وسويد وداعس وهم من رهطه نزل

{ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب{[692]} }[ الحشر : 11 ] الآية حكاية لما كانوا يدسونه إلى بني النضير إذ حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق الله وكذبوا .

وكان ممن تعوذ بالإسلام وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد ابن حنيف وزيد بن اللُّصيت وهو الذي قال في عزوة تبوك : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته ! فأعلمه الله بقوله وبمكان الناقة ، ونعيمان بن أوفى بن عمرو وعثمان بن أوفى ورافع بن حريملة وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات : " قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين " ، ورفاعة بن زيد بن التابوت وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هبت تلك الريح وهو قافل من غزوة بني المصطلق : " لا تخافوا ، إنما هبت لموت عظيم من عظماء المنافقين " ، وسلسلة بن برهام وكنانه بن صوريا . فكان هؤلاء من المنافقين ومن نحا نحوهم يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم . انتهى . وفيه اختصار فأنزل الله تعالى فيهم{[693]} هذه الآيات .


[662]:زيد في ظ: أي
[663]:من ظ ومد، وفي م: أعداءه وفي الأصل : أعدائه.
[664]:وفي السراج المنير: نزل في المنافقين حكاية لحالهم قوله تعالى "ومن الناس" أجمع المفسرون على أن ذلك وصف المنافقين قالوا: صنف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين قالوا: صنف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم وألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا، وثلث بالصنف الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم، وهذا الصنف أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله تعالى لأنهم مع مشاركتهم للكفار الأصليين في أنهم جاهلون بالقلب كاذبون باللسان من حيث أنهم ينسبون إلى الله ما هو بريء منه كالولد والزوجة والشريك زادوا عليهم بأمور منكرة منها أنهم قصدوا التلبيس، ورضوا لأنفسهم بسمة الكذب ولبسوا الكفر على المسلمين فخلطوا به خداعا واستهزاء ولذلك طول الله في بيان خبثهم وجهلهم واستهزائهم – وما بقى يطلب من ج1 ص 20
[665]:من م ومد وظ وفي الأصل : ما ينقله
[666]:في ظ: مطربا - كذا
[667]:قال البيضاوي: واللام فيه للجنس ومن موصوفة إذ لا عهد فكأنه قال: ومن الناس ناس يقولون: أو للعهد والمعهود هم الذين كفروا ومن موصولة مراد بها أبي بن كعب وأصحابه ونظرائه...فعلى هذا يكون الآية تقسيما للقسم الثاني، واختصاص الآية بالله واليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان وادعاء بأنهم احتازوا الإيمان من جانبيه "وما هم بمؤمنين" إنكار ما ادعوه ونفى ما انتحلوا إثباته وكان أصله وما آمنوا ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل لكنه على عكس تأكيدا ومبالغة في التكذيب لأن إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان ولذلك أكد النفي بالباء وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء
[668]:في م: مما
[669]:من م وظ ومد وفي الأصل: يسمح - كذا
[670]:من ظ لكن الثاء غير منقوطة وفي الأصل: عماوتهم – كذا وفي م: غشاوتهم وفي مد: خسارتهم
[671]:ليست العبارة من هنا إلى "من المنافقين" في م
[672]:وفي تفسير النسفي : الرجال المنافقون كانوا ثلاثمائة والنساء المنافقات مائة وسبعين.
[673]:هكذا في الأصل وظ وفي م: خدام ولا يتضح في مد
[674]:في الأصول : حارثة والتصحيح من سيرة ابن هشام 1 / 186
[675]:هكذا في الأصل وظ، وفي م: حذام ولا يتضح في مد
[676]:زيد في السيرة وأخذ في يده حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به
[677]:سورة 33 آية13
[678]:في الأصول : زيد والتصحيح من سيرة ابن هشام
[679]:في ظ: ابريق
[680]:وهو الثابت في سيرة ابن هشام
[681]:سورة 4 آية 107
[682]:وفي حاشية الصحيح للبخاري ج 1 ص 406 وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل اسمه قزمان هذا في عداد المنافقين وكان قد غاب يوم أحد فعيره النساء فخرج وقاتل وبالغ، وفي الصحيح بعد سرد القصة: ثم جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه - الحديث
[683]:ليس في م
[684]:في سيرة ابن هشام: عن قومي
[685]:الرواهش عروق ظاهر الكف – قطر المحيط ص 807 قطع أولا ثم إذا اشتد الوجع قتل نفسه بما ذكر
[686]:ليست في م
[687]:ليست في م
[688]:سورة 9 آية 49
[689]:في تفسير النسفي: قال الجد ابن قيس المنافق: قد علمت الأنصار إني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر – يعني نساء الروم.
[690]:سورة 63 آية 8
[691]:في مد: العوفي - كذا
[692]:سورة 59 آية11
[693]:ليس في ظ