المبحث الأول : في قوله تعالى { ومن الناس من يقول } الآية . وفيه مسائل :
الأولى : عن مجاهد قال : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين ، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين . فأقول : أحوال القلب أربع : الاعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم ، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق ، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل ، وخلو القلب عن كل ذلك . وأحوال اللسان ثلاث : الإقرار والإنكار والسكوت . كل منها بالاختيار أو بالاضطرار ، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسماً فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعاً لها في الذكر . ( النوع الأول ) : العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختياراً فصاحبه مؤمن حقاً بالاتفاق ، أو اضطراراً فهو منافق ، لأنه لولا الخوف لما أقرّ ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار . وإن انضم إليه الإنكار اضطراراً فهو مسلم لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] أو اختياراً فهو كافر معاند . وإن انضم إليه السكوت اضطراراً فمسلم حقاً لأنه خاف ، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذوراً أو اختياراً فمسلم أيضاً عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان " . ( النوع الثاني ) : الاعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختياراً فهو المسألة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا ، والأكثرون على إيمانه . أو اضطراراً فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول . وإن وجد معه الإنكار اختياراً فلا شك في كفره ، أو اضطراراً فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد . وإن وجد معه السكوت اضطراراً فمسلم بناء على إسلام المقلد ، أو ا اختياراً فكافر معاند . ( النوع الثالث ) : الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطراراً نفاق ، وكذا اختياراً لأنه أظهر خلاف ما أضمر . ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان ، وكذا مع السكوت . ( النوع الرابع ) : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختياراً ، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا . وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر ، أما إذا كان اضطرارياً فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً . والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق ، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا نفاق . فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره ، ومنه " النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها " فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج .
الثانية : زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق ، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان ، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان . وقال الآخرون : المنافق أيضاً كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه . قال عز من قائل :
{ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وأيضاً إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك . وأيضاً الكافر الأصلي على طبع الرجال ، والمنافق على طبيعة الخنائي . وأيضاً الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ، والمنافق رضي بالكذب . وأيضاً المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي ، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً وضرب لهم الأمثال الشنيعة .
الثالثة : قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة { الذين كفروا } كما تعطف الجملة على الجملة . وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي . حذفت الهمزة تخفيفاً ، مع لام التعريف كاللازم . وقوله " إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا " قليل . ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان . سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم . ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن . وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء . { ومن } في { من يقول } موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله { من المؤمنين رجال } [ الأحزاب : 23 ] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت ، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف . وإن لم يكن مفيداً من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس ، ولا يجوز أن تكون { من } موصولة حينئذ ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف ، فيبقى الكلام غير مفيد رأساً . وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو { ومنهم الذين يؤذون النبي } [ التوبة : 61 ] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم ، ولا يجوز أن تكون { من } موصوفة إذ ذاك ، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضاً ، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين . ومن البين أن مدلول قوله { وما هم بمؤمنين } معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعاً ، والضمير العائد إلى { من } يكون موحداً تارة باعتبار اللفظ نحو { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة } [ الأنعام : 25 ] ومجموعاً أخرى باعتبار المعنى مثل { ومنهم من يستمعون إليك } [ يونس : 42 ] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في { يقول } و { آمنا } . وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان ، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره . وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام . فإن قلت : إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك ؟ قلت : إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم " عزير ابن الله " وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته . فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان . فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلاً للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً إلى خبث وكفراً إلى كفر . والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية ، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده . فإن قلت : كيف طابق قوله { وما هم بمؤمنين } قولهم { آمنا } والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني بالعكس ؟ قلت : لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة ، جيء بالجملة الإسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين ، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال : إنهم لم يؤمنوا . ونظير الآية قوله تعالى
{ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } [ البقرة : 167 ] . ثم إن قوله { وما هم بمؤمنين } يحتمل أن يكون مقيداً وترك لدلالة التقييد في { آمنا } . ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.