غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ} (8)

8

التفسير : وفيه مباحث :

المبحث الأول : في قوله تعالى { ومن الناس من يقول } الآية . وفيه مسائل :

الأولى : عن مجاهد قال : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين ، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين . فأقول : أحوال القلب أربع : الاعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم ، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق ، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل ، وخلو القلب عن كل ذلك . وأحوال اللسان ثلاث : الإقرار والإنكار والسكوت . كل منها بالاختيار أو بالاضطرار ، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسماً فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعاً لها في الذكر . ( النوع الأول ) : العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختياراً فصاحبه مؤمن حقاً بالاتفاق ، أو اضطراراً فهو منافق ، لأنه لولا الخوف لما أقرّ ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار . وإن انضم إليه الإنكار اضطراراً فهو مسلم لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] أو اختياراً فهو كافر معاند . وإن انضم إليه السكوت اضطراراً فمسلم حقاً لأنه خاف ، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذوراً أو اختياراً فمسلم أيضاً عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان " . ( النوع الثاني ) : الاعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختياراً فهو المسألة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا ، والأكثرون على إيمانه . أو اضطراراً فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول . وإن وجد معه الإنكار اختياراً فلا شك في كفره ، أو اضطراراً فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد . وإن وجد معه السكوت اضطراراً فمسلم بناء على إسلام المقلد ، أو ا اختياراً فكافر معاند . ( النوع الثالث ) : الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطراراً نفاق ، وكذا اختياراً لأنه أظهر خلاف ما أضمر . ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان ، وكذا مع السكوت . ( النوع الرابع ) : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختياراً ، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا . وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر ، أما إذا كان اضطرارياً فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً . والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق ، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا نفاق . فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره ، ومنه " النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها " فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج .

الثانية : زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق ، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان ، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان . وقال الآخرون : المنافق أيضاً كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه . قال عز من قائل :

{ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وأيضاً إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك . وأيضاً الكافر الأصلي على طبع الرجال ، والمنافق على طبيعة الخنائي . وأيضاً الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ، والمنافق رضي بالكذب . وأيضاً المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي ، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً وضرب لهم الأمثال الشنيعة .

الثالثة : قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة { الذين كفروا } كما تعطف الجملة على الجملة . وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي . حذفت الهمزة تخفيفاً ، مع لام التعريف كاللازم . وقوله " إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا " قليل . ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان . سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم . ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن . وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء . { ومن } في { من يقول } موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله { من المؤمنين رجال } [ الأحزاب : 23 ] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت ، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف . وإن لم يكن مفيداً من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس ، ولا يجوز أن تكون { من } موصولة حينئذ ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف ، فيبقى الكلام غير مفيد رأساً . وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو { ومنهم الذين يؤذون النبي } [ التوبة : 61 ] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم ، ولا يجوز أن تكون { من } موصوفة إذ ذاك ، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضاً ، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين . ومن البين أن مدلول قوله { وما هم بمؤمنين } معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعاً ، والضمير العائد إلى { من } يكون موحداً تارة باعتبار اللفظ نحو { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة } [ الأنعام : 25 ] ومجموعاً أخرى باعتبار المعنى مثل { ومنهم من يستمعون إليك } [ يونس : 42 ] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في { يقول } و { آمنا } . وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان ، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره . وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام . فإن قلت : إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك ؟ قلت : إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم " عزير ابن الله " وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته . فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان . فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلاً للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً إلى خبث وكفراً إلى كفر . والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية ، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده . فإن قلت : كيف طابق قوله { وما هم بمؤمنين } قولهم { آمنا } والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني بالعكس ؟ قلت : لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة ، جيء بالجملة الإسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين ، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال : إنهم لم يؤمنوا . ونظير الآية قوله تعالى

{ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } [ البقرة : 167 ] . ثم إن قوله { وما هم بمؤمنين } يحتمل أن يكون مقيداً وترك لدلالة التقييد في { آمنا } . ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما .