افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ووافق سرهم علنهم وفعلهم قولهم . ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً قلوباً وألسنة . ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وأبطنوا خلاف ما أظهروا وهم الذين قال فيهم : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } [ النساء : 143 ] وسماهم المنافقين ، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده ؛ لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً ، وبالشرك استهزاء وخداعاً . ولذلك أنزل فيهم { إِنَّ المنافقين فِى الدرك الاسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] ووصف حال الذين كفروا في آيتين ، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم ، وفضحهم وسفههم ، واستجهلهم واستهزأ بهم ، وتهكم بفعلهم ، وسجل بطغيانهم ، وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة . وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة .
وأصل «ناس » أناس ، حذفت همزته تخفيفاً كما قيل : لوقة ، في ألوقة . وحذفها مع لام التعريف كاللازم لا يكاد يقال الأناس . ويشهد لأصله إنسان وأناس وأناسى وإنس . وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون ، كما سمي الجنّ لاجتنانهم . ولذلك سموا بشراً . ووزن ناس فعال ؛ لأن الزنة على الأصول . ألا تراك تقول في وزن «قه » افعل ، وليس معك إلا العين وحدها ؟ وهو من أسماء الجمع كرخال . وأما نويس فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل . ولام التعريف فيه للجنس . ويجوز أن تكون للعهد ، والإشارة إلى الذين كفروا المارّ ذكرهم ؛ كأنه قيل : ومن هؤلاء من يقول . وهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه ومن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق . ونظير موقعه موقع القوم في قولك : نزلت ببني فلان فلم يقروني والقوم لئام .
ومن في { مَن يَقُولُ } موصوفة ، كأنه قيل : ومن الناس ناس يقولون كذا ، كقوله : { منَ المؤمنين رِجَالٌ } [ الفتح : 25 ] إن جعلت اللام للجنس . وإن جعلتها للعهد فموصولة ، كقوله : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى } [ التوبة : 61 ] .
فإن قلت : كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم ؟ قلت : الكفر جمع الفريقين معاً وصيرهم جنساً واحداً . وكون المنافقين نوعاً من نوعي هذا الجنس - مغايراً للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء - لا يخرجهم من أن يكونوا بعضاً من الجنس ؛ فإن الأجناس إنما تنوّعت لمغايرات وقعت بين بعضها وبعض . وتلك المغايرات إنما تأتي بالنوعية ولا تأبى الدخول تحت الجنسية .
فإن قلت : لم اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر ؟ قلت : اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة ؛ لأن القوم كانوا يهوداً ، وإيمان اليهود بالله ليس بإيمان ، لقولهم : { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] . وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ، لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته ، فكان قولهم : { ءَامَنَّا بالله وباليوم الأخر } خبثاً مضاعفاً وكفراً موجهاً ، لأن قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم ، فهو كفر لا إيمان . فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم ، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي ، كان خبثاً إلى خبث ، وكفراً إلى كفر . وأيضاً فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا الإيمان من جانبيه ، واكتنفوه من قطريه ، وأحاطوا بأوّله وآخره . وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام .
فإن قلت : كيف طابق قوله : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } قولهم : { ءَامَنَّا بالله وباليوم الأخر } والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل ؟ قلت : القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه ، فسلك في ذلك طريق أدّى إلى الغرض المطلوب . وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره ، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين ، لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين في الإيمان . وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة ، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع . ونحوه قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] هو أبلغ من قولك : وما يخرجون منها .
فإن قلت : فلم جاء الإيمان مطلقاً في الثاني وهو مقيد في الأوّل ؟ قلت : يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه ، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ، ولا من الإيمان بغيرهما .
فإن قلت : ما المراد باليوم الآخر ؟ قلت : يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع ، لتأخره عن الأوقات المنقضية . وأن يراد الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة الذي لا حدّ للوقت بعده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.