" من الناس " خبر مقدم ، و " من يقول " مبتدأ مؤخر ، و " مَنْ " تحتمل أن تكون موصولة ، أو نكرة موصوفة أي : الذي يقول ، أو فريق يقول ، فالجملة على الأول لا محل لها ؛ لكونها صلة ، وعلى الثاني محلها الرفع ؛ لكونها صفة للمبتدأ .
واستضعف أبو البقاء أن تَكُونَ موصولة ، قال : لأن " الذي " يتناول قوماً بأعيانهم ، والمعنى هنا على الإبهام .
وهذا منه غير مسلم ؛ لأنّ المنقول أنّ الآية نزلت في قومٍ بأعيانهم كعبد الله بن أبي ورهطه .
وقال الزمخشري : إن كانت أل للجنس كانت " منْ " نكرة موصوفة كقوله : { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ } [ الأحزاب : 23 ] .
وإن كانت للعَهْد كانت موصولة ، وكأن قصد مناسبة الجنس للجنس ، والعهد للعهد ، إلا أن هذا الذي قاله غير لازم ، بل يجوز أن تكون " أل " للجنس ، وتكون " منْ " موصولة ، وللعهد ، و " منْ " نكرة موصوفة .
وزعم الكِسَائِيّ أنها لا تكون نكرة إلاّ في موضع تختص به النكرة ؛ كقوله : [ الرمل ]
رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ *** لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطَعْ{[622]}
وهذا الذي قاله هو الأكثر ، إلا أنها قد جاءت في موضع لا تختصّ به النكرة ؛ قال : [ الكامل ]
فَكَفَى بِنَا فَضْلاً عَلَى مَنْ غَيْرُنَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[623]}
و " من " تكون موصولة ، ونكرة موصوفة كما تقدّم ، وشرطية واستفهامية .
وهل تقع نكرة غير موصوفة ، أو زائدة ؟ فيه خلاف . واستدل الكسَائي على زيادتها بقول عنترة : [ الكامل ]
يَا شَاةَ منْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ *** حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ{[624]}
ولا دليل فيه ، لجواز أن تكون موصوفة ب " قَنَصٍ " إما على المبالغة ، أو على حذف مضاف ، وتصلح للتثنية والجمع والواحد .
فالواحد كقوله : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } [ الأنعام : 25 ] والجمع كقوله : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، والسبب فيه أنه موحّد اللفظ مجموع المعنى . و " مِنْ " في " من الناس " للتبعيض ، وقد زعم قومٌ أنها لِلْبَيَانِ وهو غَلَطٌ ؛ لعدم تقدم ما يتبين بها . و " النَّاس " اسم جمع لا واحد له من لَفْظِهِ ، ويرادفه " أَنَاسِيّ " جمع إنسان أو إنسي ، وهو حقيقة في الآدميين ، ويطلق على الجِنّ مجازاً .
واختلف النحويون في اشتقاقه : فمذهب سيبويه والفراء أن أصله همزة ونون وسين ، والأصل : أناس اشتقاقاً من الأُنس ، قال : [ الطويل ]
وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ *** وَلاَ الْقَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ{[625]}
وقيل : بل أنس بربه ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ؛ يدلّ على ذلك قوله : [ الكامل ]
إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعْ *** نَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا{[626]}
وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ *** وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ{[627]}
وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ *** دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ{[628]}
وذهب الكسائي إلى أنه من " نون وواو وسين " والأصل : " نوس " فقلبت " الواو " " ألفاً " لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، والنَّوسُ : الحركة .
وذهب بعضهم إلى أنه من " نون وسين وياء " ، والأصل " نسي " ، ثم قلبت " اللام " إلى موضع العين ، فصار : " نيس " ثم قلبت " الياء " " ألفاً " لما تقدم في " نوس " ، قال : سموا بذلك لنسيانهم ؛ ومنه الإنسان لنسيانه ؛ قال : [ البسيط ]
فَإِنْ نَسِيتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفةً *** فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ{[629]}
لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا *** سُمِّيتَ إِنْسَاناً لإِنَّكَ نَاسِي{[630]}
فوزنه على القول الأول : " عَال " ، وعلى الثاني : " فَعَلٌ " ، وعلى الثالث : " فَلَعٌ " " بالقَلْبِ " . و " يقول " : فعل مضارع ، وفاعله ضمير عائد على : " من " .
والقول حقيقةً : اللفظ الموضوعُ لمعنى ، ويطلق على اللَّفْظِ الدَّال على النسبة الإسنادية ، وعلى الكلام النَّفساني أيضاً ، قال تعالى : { وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] . وتراكيبه السّتة وهي : " القول " ، و " اللوق " ، و " الوقل " ، و " القلو " ، و " اللّقو " ، و " الولق " تدل على الخفّة والسرعة ، وإن اختصت بعض هذه المواد بمعانٍ أخر .
و " القول " أصل تعديته لواحد نحو : " قُلْتُ خطبة " ، وتحكي بعده الجمل ، وتكون في محل نصب مفعولاً بها ، إلا أن يُضَمَّنَ معنى الظن ، فيعمل عمله بشروط عند غير " بني سُلَيْمٍ " ؛ كقوله : [ الرجز ]
مَتَى تقُولُ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا *** يُدْنِينَ أُمَّ قَاسِمٍ وَقَاسِمَا{[631]}
وبغير شرط عندهم ، كقوله : [ الرجز ]
قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا *** هَذَا لَعَمْرُ اللهِ إِسْرَائِينَا{[632]}
و " آمنا " فعل وفاعل ، و " بالله " متعلّق به ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وكررت " الباء " في قوله : " وباليوم " ، للمعنى المتقدّم في قوله : { وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ } [ البقرة : 7 ] .
فإن قيل : الخبر لا بدّ وأن يفيد غير ما أفاد المبتدأ ، ومعلوم أنّ الذي يقول كذا هو من الناس لا من غيرهم ؟
فالجواب : أنّ هذا تفصيل معنوي ، لأنه تقدّم ذكر المؤمنين ، ثم ذكر الكَافرين ، ثم عقب بذكر المُنافقين ، فصار نظير التَّفصيل اللَّفظي ، نحو قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ } [ البقرة : 204 ] ، { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي } [ لقمان : 6 ] ، فهو في قوّة تفصيل النَّاس إلى مؤمن ، وكافر ، ومنافق .
وأحسن من هذا أن يقال : إنَّ الخبر أفاد التَّبعيض المقصود ؛ لأنَّ النَّاس كلهم لم يقولوا ذلك ، وهم غير مؤمنين ، فصار التقدير : وبعض الناس يقول كَيْتَ وكَيْت .
واعلم أن " مَنْ " وأخواتها لها لفظ ومعنى ، فلفظها مفرد مذكر ، فإن أريد بها غير ذلك ، فَلَكَ أن تراعي لفظها مَرّة ، ومعناها أخرى ، فتقول : جاء مَنْ قام وقعدوا ، والآية الكريمة كذلك روعي اللفظ أولاً فقيل : " من يقول " ، والمعنى ثانياً في " آمنا " .
وقال ابن عطية{[633]} : حسن ذلك ؛ لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة ، ولا يجوز أن يرجع متكلّم من لفظ جمع إلى توحيد .
فلو قلت : " ومن الناس من يقومون " وتتكلّم لم يجز .
وفي عبارة ابن عطية نظر ، وذلك لأنّه منع مِنْ مُرَاعاة اللَّفظ بعد مُرَاعاة المعنى ، وذلك جائز ، إلا أنَّ مراعاة اللّفظ أولاً أولى ، يرد عليه قول الشَّاعر : [ الخفيف ]
لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو *** نَ إِذَا كَافَحَتْه خَيْلُ الأَعَادِي{[634]}
وقال تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ } [ الطلاق : 11 ] إلى أن قال :
" خَالِدينَ " ، فراعى المعنى ، ثم قال : " قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً " ، فراعى اللفظ بعد مُرَاعاة المعنى ، وكذا راعى المعنى في قوله : " أو يستكينون " ، ثم راعى اللفظ في : " إذا كافحته " ، وهذا الحمل جاز فيها في جميع أحوالها ، أعني من كونها موصولة وشرطية ، واستفهامية .
أما إذا كانت موصوفة فقال الشيخ أثير الدين أبو حَيّان : " ليس في محفوظي{[635]} من كلام العرب مُرَاعاة المعنى يعني فتقول : مررت بمن محسنون لك " .
و " الآخر " صفة ل " اليوم " ، وهذا مقابل الأوّل ، ومعنى اليوم الآخر : أي عن الأوقات المحدودة .
ويجوز أن يُرَاد به الوقت الَّذي لا حَدّ له ، وهو الأبد القائم الذي لا انقطاع له ، والمراد بالآخر : يوم القيامة .
" وما هم بمؤمنين " " ما " : نافية ، ويحتمل أن تكون هي الحِجَازية ، فترفع الاسم وتنصب الخبر ، فيكون " هم " اسمها ، و " بمؤمنين " خبرها ، و " الباء " زائدة تأكيداً .
وأن تكون التَّمِيْمِيّة ، فلا تعمل شيئاً ، فيكون " هم " مبتدأ ، و " بمؤمنين " الخبر ، و " الباء " زائدة أيضاً .
وزعم أبو علي الفَارِسِيّ ، وتبعه الزمخشري أن " الباء " لا تزاد في خبرها إلاّ إذا كانت عاملة ، وهذا مردود بقول الفَرَزْدَقِ{[636]} ، وهو تميمي : [ الطويل ]
لَعَمْرُكَ مَا مَعْنٌ بِتَارِكِ حَقِّهِ *** وَلاَ مُنْسِىءٌ مَعْنٌ وَلاَ مُتَيَسِّرُ{[637]}
إلا أنّ المختار في " ما " أن تكون حِجَازية ؛ لأنه لما سقطت " الباء " صرح بالنصب قال الله تعالى : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] { مَا هَذَا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] ، وأكثر لغة " الحجاز " زيادة الباء في خبرها ، حتى زعم بعضهم أنه لم يحفظ النصب في غير القرآن ، إلاّ قول الشاعر : [ الكامل ]
وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ *** تَصِلُ الْجُيوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا
أَبْنَاؤُهَا مُتَكَنِّفُونَ أَبَاهُمُ *** حَنِقُو الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلاَدَهَا{[638]}
وأتى الضمير في قوله : { وما هم بمؤمنين } جمعاً اعتباراً للمعنى كما تقدّم في قوله : " آمنا " . فإن قيل : لم أتي بخبر " ما " اسم فاعل غير مقيّد بزمان ، ولم يؤت بعدها بجملة فعلية حتى يطابق قولهم : " آمنّا " : فيقال : وما آمنوا ؟
فالجواب : أنه عدل عن ذلك ليفيد أن الإيمان منتف عنهم في جميع الأوقات ، فلو أتى به مطابقاً لقولهم : " آمنا " فقال : وما آمنوا لكان يكون نفياً للإيمان في الزمن الماضي فقط ، والمراد النَّفي مطلقاً أي : أنهم ليسوا ملتبسين بشيء من الإيمان في وقتٍ من الأوقات .
قال ابن عباس - رضي الله عنه - إنما نزلت في مُنَافقي أَهْلِ الكتاب ، كعبد الله بن أبي ابن سلول ومعتب بن قُشَيْرٍ ، وجدّ بن قيس وأصحابهم ، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ، ويقولون : إنا لنجد نَعْتَهُ وصفته في كتابنا ، ولم يكونوا كذلك إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض .
قال ابن الخَطِيْبِ{[639]} : الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلّص إلا بتقسيم ، وهو أنّ أحوال القلب أربعة :
وهي أن تعتقد مستنداً لدليل وهو العلم ، أو تعتقد لا عن دليل لكن تقليد ، أو تعتقد لا عن دليل ولا تقليد وهو الجهل ، أو يكون حال القلب عن هذه الأحوال كلها .
وأما أحوال اللسان فثلاثة : الإقرار ، والإنكار ، والسكوت .
فأما الأول : وهو أن يحصل العرفان القلبي ، فإما أن ينضم إليه الإقرار باللسان ، فإن كان الإقرار اختيارياً ، فصاحبه مؤمن حقًّا ، بالاتفاق .
وإن كان اضطراريًّا فهذا يجب أن يعد منافقاً ؛ لأنه بقلبه منكر مكذب لموجب الإقرار .
فإن كان منكراً بلسانه عارفاً بقلبه ، فهذا الإنكار إنْ كان اضطرارياً كان مسلماً ؛ لقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } [ النحل : 106 ] ، وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً .
وإن كان عارفاً بقلبه ، وكان ساكتاً ، فهذا السكوت إن كان اضطرارياً كما إذا خاف ذكره باللسان ، فهو مسلم حقًّا ، أو كما إذا عرف الله بالدليل ، ثم لما تمّم بالنظر مات فهو مؤمن قطعاً ؛ لأنه أتى بما كلف به ، ولم يجد زَمَانَ الإقرار ، فكان معذوراً فيه ، وإن كان السّكوت اختيارياً ، فهذا محل البحث ، فميل الغَزَالي إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه الصَّلاة والسلام : " يَخْرُجُ من النَّار من كَانَ في قَلْبِهِ ذرّةٌ من الإيمان " {[640]} وهذا قلبه مملوء من نور الإيمان ، فكيف لا يخرج من النار ؟
النوع الثاني : أن يحصل في القلْبِ الاعتقاد التقليدي ، فإما أن يوجد معه الإقرار باللسان ، أو الإنكار أو السكوت .
فإن وجد مع التّقليد الإقرار باللسان ، فإن كان اختياراً فهي المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا ؟
وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى ، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر ، فهاهنا لا كلام ، وإن حكمنا هُنَاك بالإيمان وجب أنْ يحكم هاهنا بالنِّفَاق ؟ لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً ، فمات يكون منافقاً عند التقليد .
فإن حصل الاعتقاد والتقليد مع الإنكار اللساني ، فهذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شَكّ في الكفر ، وإن كان اضطرارياً ، وحكمنا بإيمان المُقَلّد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصُّورة .
فإن حصل الاعتِقَادُ التقليدي مع السُّكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً فحكمه حكم القسم الثَّالث مع النَّوْعِ الأوّل إذا حكمنا بإيمان المُقَلّد .
النوع الثَّالث : اعتقاد الجَاهِل ، فإما أن يوجد معه الإقرار اللِّسَاني ، فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المُنَافق ، وإن كان اختيارياً مثل أن يعتقد بناء على شبهة أن العالم قديم ، ثم بالاختيار أقرّ باللسان أن العالم مُحْدَث ، وهذا غير مستبعدٍ ، فهذا أيضاً من النفاق .
النوع الرابع : القَلْبُ الخالي عن جميع الاعتقادات ، وهذا إما أن يوجد معه الإقرار ، أو الإنكار ، أو السكوت . فإن وجد الإقرار ، فإن كان الإقرار اختيارياً ، فإن كان صاحبه في مُهْلة النظر لم يلزمه الكفر ، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري هل هو صَادق فيه أم لا ؟
وإن كان لا في مُهْلة النظر ، ففيه نظر .
وإن كان الإقرار اضطرارياً لم يكفر صاحبه ؛ لأن توقّفه إذا كان في مُهْلة النظر ، وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً .
فإن كان مع القَلْب الخالي الإنكار باللِّسَان ، فحكمه على العكس من حكم القِسْمِ العاشر .
فإن حصل مع القلب الخالي السُّكوت ، فهذا إن كان في مُهْلة النظر ، فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجاً عن مُهْلة النظر وجب تكفيره ، ولا يحكم عليه بالنِّفَاق ألبتة .
اختلفوا في أنّ كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المُنَافق ؟
قال قوم : كفر الأصلي أقبح ؛ لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان .
وقال آخرون : بل المنافق أيضاً كاذبٌ باللسان ، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه ، ولذلك قال تعالى : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] ، وقال تعالى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }
[ المنافقون : 1 ] ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة :
أحدها : أنه قصد التَّلبيس ، والكافر الأصلي ما قصد ذلك .
وثانيها : أنّ الكافر على طبع الرجال ، والمُنَافق على طبع الخُنُوثة .
وثالثها : أنَّ الكافر ما رضي لنفسه بالكذب ، ولم يرض إلاَّ بالصدق ، والمنافق رضي بذلك .
ورابعها : أنَّ المنافق ضمّ إلى كفره الاستهزاء ، بخلاف الكافر الأصلي ، ولأجل غلظ كفره قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] .
وخامسها : قال كجاهد : إنه - تعالى - ابتدأ بذكر المؤمنين في أربع آيات ، ثم ثَنّى بذكر الكفار في آيتين ، ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية ، وذلك يدلّ على أنَّ المُنَافق أعظم جرماً ، وفي هذا نظر [ لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم ]{[641]} لأنه قد يكون عظم جرمهم لضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي ، كالمُخَادعة والاستهزاء ، وطلب الغَوَائل وغير ذلك ، ويمكن أن يُجَاب بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلُّ على أنَّ الاهتمام بدفع شرهم أشدُّ من الاهتمام بِدَفْعِ شرّ الكُفار ، وذلك يدلّ على أنهم أعظم جرماً من الكفار ، والله أعلم .
فصل في ادعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر
ذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً وهو : أنّ المنافقين كانوا مؤمنين بالله ، واليوم الآخر ، ولكنهم كانوا منكرين نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - فلم كذبوا في ادّعائهم الإيمان بالله ، واليوم الآخر ؟
وأجاب فقال : إن حملنا الآية على مُنَافقي المشركين فلا إشكال ؛ لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ، ومنكرين البعث والنشور .
وإن حملناها على مُنَافقي أهل الكتاب - وهم اليهود - فإنما كذبهم الله - تعالى - لأن إيمان اليَهُود بالله ليس بإيمان ؛ لأنّهم يعتقدونه جسماً ، وقالوا : عزيرٌ ابن الله ، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان ، فلما قالوا : آمنّا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً ؛ لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل ، وباللِّسَان يوهمون المسلمين بقولهم : إنا آمنا بالله مثل إيمانكم ، فلهذا كذبهم الله - تعالى - فيه .