ثم عجب نبيه فقال :{ وما أدراك ما ليلة القدر } سميت ليلة القدر لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام ، يقدر الله فيها أمر السنة في عباده وبلاده إلى السنة المقبلة ، كقوله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم }( الدخان- 4 ) ، وهو مصدر قولهم : قدر الله الشيء بالتخفيف ، قدراً وقدراً ، كالنهْر والنهَر ، والشعْر والشعَر ، وقدره -بالتشديد- تقديراً بمعنى واحد . قيل للحسين بن الفضل : أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : نعم ، قيل : فما معنى ليلة القدر ؟ قال : سوق المقادير التي خلقها إلى المواقيت ، وتنفيذ القضاء المقدر . وقال الأزهري : ليلة العظمة والشرف من قول الناس : لفلان عند الأمير قدر ، أي جاه ومنزلة ، ويقال : قدرت فلاناً أي عظمته . قال الله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره }( الأنعام- 91 ) ( الزمر- 67 ) ، أي ما عظموه حق تعظيمه . وقيل : لأن العمل الصالح يكون فيها ذا قدر عند الله ؛ لكونه مقبولاً . واختلفوا في وقتها ، فقال بعضهم : إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفعت ، وعامة الصحابة والعلماء على أنها باقية إلى يوم القيامة . وروي عن عبد الله بن الحسين مولى معاوية قال : قلت لأبي هريرة : زعموا أن ليلة القدر قد رفعت ؟ قال : كذب من قال ذلك ، قلت : هي في كل شهر ؟ قال : لا ، بل في شهر رمضان فاستقبله . وقال بعضهم : هي ليلة من ليالي السنة حتى لو علق رجل طلاق امرأته وعتق عبده بليلة القدر ، لا يقع ما لم تمض سنة من حين حلف ، يروى ذلك عن ابن مسعود ، قال : من يقم الحول يصبها ، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، أما إنه علم أنها في شهر رمضان ، ولكن أراد أن لا يتكل الناس . والجمهور من أهل العلم على أنها في شهر رمضان . واختلفوا في تلك الليلة ، قال أبو رزيق العقيلي : هي أول ليلة من شهر رمضان . وقال الحسن : ليلة سبع عشرة ، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر . والصحيح والذي عليه الأكثرون : أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ، ويقول : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن أبي يعقوب ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شد مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله " .
واختلفوا في أنها في أي ليلة من العشر :
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا أبو سهيل ، عن أبيه ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد الوزان ، أنبأنا مكي بن عبدان ، حدثنا عبد الله بن هاشم بن حيان ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن ، حدثني أبي قال : " ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة ، فقال : ما أنا بطالبها بعد شيء سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : التمسوها في العشر الأواخر من تسع بقين ، أو سبع يبقين ، أو خمس يبقين ، أو آخر ليلة ، فكان أبو بكرة إذا دخل رمضان يصلي كما يصلى في سائر السنة ، فإذا دخل العشر الأواخر اجتهد " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثني خالد بن الحارث ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أنس ، عن عبادة بن الصامت قال : " خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال : خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن نافع عن عبد الله بن عمر " أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " . وروي عن أبي سعيد الخدري : أنها إحدى وعشرين .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسطى من رمضان ، واعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج صبحها من اعتكافه ، قال : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، وقد رأيت هذه الليلة ثم نسيتها ، وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر " . قال أبو سعيد الخدري : فمطرت السماء تلك الليلة ، وكان المسجد على عريش فوكف المسجد . قال أبو سعيد : فأبصرت عيناي النبي صلى الله عليه وسلم قد انصرف علينا ، وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين .
وقال بعضهم : هي ليلة ثلاث وعشرين .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أحمد بن خالد الحمصي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، حدثني عبد الله بن أنيس ، عن أبيه " أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أكون ببادية يقال لها الوطأة ، وإني بحمد الله أصلي بهم ، فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها إلى المسجد فأصليها فيه ، فقال : انزل ليلة ثلاث وعشرين فصلها فيه ، وإن أحببت أن تستتم آخر الشهر فافعل ، وإن أحببت فكف . قال : فكان إذا صلى العصر دخل المسجد فلم يخرج إلا من حاجة حتى يصلي الصبح ، فإذا صلى الصبح كانت دابته بباب المسجد " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : " تذاكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم مضى من الشهر ؟ فقلنا : اثنتان وعشرون وبقي ثمان ، فقال : مضى اثنتان وعشرون وبقي سبع ، اطلبوها الليلة ، الشهر تسع وعشرون " .
وقال قوم : هي ليلة سبع وعشرين ، وهو قول علي وأبي وعائشة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب : " يا أبا المنذر أخبرنا عن ليلة القدر ، فإن عبد الله بن مسعود يقول : من يقم الحول يصبها ، فقال : رحم الله أبا عبد الرحمن ، أما إنه قد علم أنها في رمضان ، ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا ، هي -والذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم- ليلة سبع وعشرين ، فقلنا : يا أبا المنذر أنى علمت هذا ؟ قال : بالآية التي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فحققناها وعددنا ، هي والله لا تنسى ، قال قلنا لزر : وما الآية ؟ قال : تطلع الشمس كأنها طاس ليس لها شعاع " .
ومن علاماتها : ما روي عن الحسن رفعه : أنها ليلة بلجة سمحة ، لا حارة ولا باردة ، تطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها .
وفي الجملة : أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعاً في إدراكها ، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وأخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس ، واسمه الأعظم في الأسماء ، ورضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها ، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها ، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذراً من قيامها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.