لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ} (2)

قوله عزّ وجلّ : { إنا أنزلناه } يعني القرآن كناية عن غير مذكور { في ليلة القدر } وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن العظيم جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر ، فوضعه في بيت العزة ، ثم نزل به جبريل عليه السّلام على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة ، فكان ينزل بحسب الوقائع ، والحاجة إليه ، وقيل : إنما أنزله إلى السّماء الدّنيا لشرف الملائكة بذلك ، ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة ، فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة ، وسميت ليلة القدر لأن فيها تقدير الأمور ، والأحكام ، والأرزاق ، والآجال ، وما يكون في تلك السنة إلى مثل هذه اللّيلة من السّنة المقبلة يقدر الله ذلك في بلاده وعباده ، ومعنى هذا أن الله يظهر ذلك لملائكته ، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم بأن يكتب لهم ما قدره في تلك السنة ويعرفهم إيّاه ، وليس المراد منه أن يحدثه في تلك اللّيلة ؛ لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض في الأزل ، قيل للحسين بن الفضل : أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : نعم . قيل له : فما معنى ليلة القدر ؟ قال : سوق المقادير إلى المواقيت ، وتنفيذ القضاء المقدر ، وقيل : سميت ليلة القدر لعظم قدرها ، وشرفها على اللّيالي ، من قولهم : لفلان قدر عند الأمير ، أي منزلة وجاه ، وقيل : سميت بذلك ؛ لأن العمل الصّالح يكون فيها ذا قدر عند الله لكونه مقبولاً ، وقيل : سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة فيها .

( فصل في فضل ليلة القدر وما ورد فيها )

( ق ) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " .

واختلف العلماء في وقتها ، فقال بعضهم : إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رفعت لقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان : " إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم " ، وهذا غلط ممن قال بهذا القول ؛ لأن آخر الحديث يرد عليهم ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في آخره : " فالتمسوها في العشر الأواخر في التاسعة والسابعة والخامسة " ، فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها ، وعامة الصّحابة والعلماء فمن بعدهم على أنها باقية إلى يوم القيامة ، روي عن عبد الله بن خنيس مولى معاوية قال : قلت لأبي هريرة : زعموا أن ليلة القدر رفعت ، قال : كذب من قال ذلك . قلت : هي في كل شهر رمضان استقبله ، قال : نعم .

ومن قال ببقائها ووجودها اختلفوا في محلها ، فقيل : هي منتقلة ، تكون في سنة في ليلة ، وفي سنة أخرى في ليلة أخرى ، هكذا أبداً . قالوا : وبهذا يجمع بين الأحاديث الواردة في أوقاتها المختلفة ، وقال مالك والثّوري وأحمد ، وإسحاق وأبو ثور ، إنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان ، وقيل : بل تنتقل في رمضان كله ، وقيل : إنها في ليلة معينة لا تنتقل عنها أبداً في جميع السنين لا تفارقها ، فعلى هذا هي في ليلة من السّنة كلها ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي حنيفة وصاحبيه ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : من يقم الحول يصبها ، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن . أما إنه علم أنها في شهر رمضان ، ولكن أراد أن لا يتكل الناس ، وقال جمهور العلماء : إنها في شهر رمضان ، واختلفوا في تلك الليلة ، فقال أبو رزين العقيلي : في أول ليلة من شهر رمضان ، وقيل : هي ليلة سبعة عشر ، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر ، يحكى هذا عن زيد بن أرقم ، وابن مسعود أيضاً ، والحسن والصّحيح الذي عليه الأكثرون أنها في العشر الأواخر من رمضان ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

( ذكر الأحاديث الواردة في ذلك )

( ق ) عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور العشر الأواخر من رمضان ، ويقول : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " .

( م ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان " .

وذهب الشّافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين .

( ق ) عن أبي هريرة أن أبا سعيد قال : " اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط ، فلما كانت صبيحة عشرين نقلنا متاعنا ، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه ، وأنا رأيت هذه الليلة ، ورأيتني أسجد في ماء وطين ، فلما رجع إلى معتكفه هاجت السماء فمطرنا ، فوالذي بعثه بالحق لقد هاجت السماء من آخر ذلك اليوم ، وكان المسجد على عريش ، ولقد رأيت على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين " ، وفي رواية نحوه إلا أنه قال : " حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي اللّيلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال : من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر " .

وورد في فضل ليلة القدر اثنان وعشرون حديثاً عن عبد الله بن أنيس قال : " كنت في مجلس لبني سلمة وأنا أصغرهم ، فقالوا : من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ؟ وذلك في صبيحة إحدى وعشرين من رمضان ، فخرجت فوافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر ، فقال : كم اللّيلة ، فقلت اثنتان وعشرون ، فقال : هي اللّيلة ، ثم رجع فقال : أو القابلة ، يريد ثلاثاً وعشرين " أخرجه أبو داود .

وذهب جماعة من الصّحابة وغيرهم أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين ، ومال إليه الشّافعي أيضاً .

( خ ) عن الصّنابجي ، أنه سأل رجلاً : هل سمعت في ليلة القدر شيئاً ؟ قال : أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها في أول السبع من العشر الأواخر ، وهذا اللفظ مختصر عن عبد الله بن أنيس ، قال : " قلت : يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها ، وأنا أصلي فيها بحمد الله ، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد ، فقال : انزل ليلة ثلاث وعشرين . قيل لابنه : كيف كان أبوك يصنع ؟ قال : كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج إلا لحاجة حتى يصلي الصبح ، فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد ، فجلس عليها ولحق بباديته " . أخرجه أبو داود ، ولمسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أريت ليلة القدر ثم أنسيتها ، وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين " ، قال : فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين ، فصلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف ، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه .

ويحكى عن بلال وابن عباس والحسن أنها ليلة أربع وعشرين :

( خ ) عن ابن عباس قال : التمسوها في أربع وعشرين .

وقيل : في ليلة خمس وعشرين ، دليله قوله صلى الله عليه وسلم : " تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " .

وقيل هي ليلة سبع وعشرين ، يحكى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب ، وابن عباس ، وإليه ذهب أحمد .

( م ) عن زر بن حبيش قال : سمعت أبي بن كعب يقول : وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول : من قام السنة أصاب ليلة القدر ، قال أبيّ : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان ، يحلف ، ولا يستثني ، فوالله إني لأعلم أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، وهي ليلة سبع وعشرين ، وأمارتها أن تطلع الشّمس من صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها .

عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم " في ليلة القدر ، قال : ليلة سبع وعشرين " أخرجه أبو داود .

وقيل : هي ليلة تسع وعشرين ، دليله قوله : " تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " .

وقيل هي ليلة آخر الشهر ، عن ابن عمر قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وأنا أسمع ، فقال : هي في كل رمضان " ، أخرجه أبو داود ، قال : ويروى موقوفاً عليه .

( ذكر ليال مشتركة ) :

عن ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر : " اطلبوها ليلة سبع ، وعشرين من رمضان ، وليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين ، ثم سكت " أخرجه أبو داود .

عن عتبة بن عبد الرّحمن قال : حدثني أبي قال : ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال : ما أنا بملتمسها بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في العشر الأواخر ، فإني سمعته يقول : " التمسوها في تسع يبقي ، أو خمس يبقين ، أو في ثلاث يبقين ، أواخر الشهر " . قال : وكان أبو بكرة يصلي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السنة ، فإذا دخل العشر الأواخر اجتهد ، أخرجه التّرمذي .

( خ ) عن عبادة بن الصّامت قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبر بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة " . قوله : فتلاحى رجلان أي تخاصم رجلان ، وقوله : فرفعت لم يرد رفع عينها ، وإنما أراد رفع بيان وقتها ، ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها .

( خ ) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي في العشر ، في سبع مضين ، أو سبع يبقين يعني القدر " ، وفي رواية " في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى " .

قال أبو عيسى : " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر أنها ليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين ، وخمس وعشرين ، وسبع وعشرين ، وتسع وعشرين ، وآخر ليلة من رمضان " .

قال الشّافعي : كان هذا عندي - والله أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل عنه ، يقال له : نلتمسها في كذا ، فقال : التمسوها في ليلة كذا . قال الشّافعي : وأقوى الروايات عندي في ليلة إحدى وعشرين .

قال البغوي : وبالجملة أبهم الله تعالى هذه الليلة على الأمة ليجتهدوا في العبادة ليالي شهر رمضان طمعاً في إدراكها ، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وأخفى الصّلاة الوسطى في الصّلوات الخمس ، واسمه الأعظم في القرآن في أسمائه ، ورضاه في الطّاعات ليرغبوا في جميعها ، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها ، وأخفى قيام السّاعة ليجتهدوا في الطاعات حذراً من قيامها ، ومن علاماتها .

ما روى الحسن رفعه " إنها ليلة بلجة سمحة ، لا حارة ولا باردة ، تطلع الشمس صبيحتها بيضاء ، لا شعاع لها " .

( ق ) عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر أحيا اللّيل ، وأيقظ أهله ، وجد وشد المئزر " ، ولمسلم عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره " .

( ق ) عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، حتى توفاه الله عز وجل ، ثم اعتكف أزواجه من بعده " .

( ق ) عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان " .

عن عائشة قالت : " قلت : يا رسول الله ، إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي : اللّهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني " ، أخرجه التّرمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، أخرجه النسائي وابن ماجه .