السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ} (2)

{ وما أدراك } أي : أعلمك يا أشرف الخلق { ما ليلة القدر } فإن في ذلك تعظيماً لشأنها . روي أنه أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وأملاه جبريل عليه السلام على السفرة ، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحاجة إليه . وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه نزل في شهر رمضان ، وفي ليلة القدر ، وفي ليلة مباركة ، جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين سنة ، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة . قال ابن العربي : وهذا باطل ، ليس بين جبريل وبين الله تعالى واسطة ، ولا بين جبريل وبين محمد صلى الله عليه وسلم واسطة . وعن الشعبي : إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر . وقيل : المعنى أنزل في شأنها وفضلها فليست ظرفاً ، وإنما هو كقول عمر رضي الله عنه : خشيت أن ينزل فيّ قرآن . وقول عائشة رضي الله عنها : لأنا أحقر في شأني أن ينزل فيّ قرآن . وسميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره ، ويسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة ، وهم إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل عليهم السلام ، كقوله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان ، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر ، وهذا يصلح أن يكون جمعاً بين القولين في قوله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } فإنه قيل فيها : إنها ليلة النصف من شعبان ، وقيل : ليلة القدر ، وحينئذ لا خلاف ، وقيل : سميت بذلك لتضيقها بالملائكة . قال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها الملائكة كقوله تعالى : { ومن قدر عليه رزقه } [ الطلاق : 7 ] وقيل : سميت بذلك لعظمها وشرفها وقدرها ، من قولهم : لفلان قدر ، أي : شرف ومنزلة ، قاله الأزهري وغيره . وقيل : سميت بذلك لأن للطاعة قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً . وقيل : لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر ، على رسول ذي قدر ، ومعنى أنّ الله تعالى يقدر الآجال : أنه يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من سعتهم بأن يكتب لهم ما قدّره في تلك السنة ، ويعرّفهم إياه ، وليس المراد أنه يحدث في تلك الليلة ؛ لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض في الأزل . قيل : للحسين بن الفضل : أليس قد قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : نعم . قيل له : فما معنى ليلة القدر ؟ قال : سوق المقادير إلى المواقيت ، وتنفيذ القضاء المقدّر .

واختلفوا هل هي باقية أو لا ؟ فقيل : إنها كانت مرّة ثم انقطعت ، وقيل : إنها رفعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحيح أنها باقية إلى يوم القيامة . وروي عن عبد الله بن محسن مولى معاوية قال : قلت لأبي بكر : زعموا أن ليلة القدر قد رفعت ، قال : كذب من قال ذلك ، قلت : هي في كل شهر رمضان أستقبله ، قال : نعم . وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب ، أم هي في كل عام ؟ فقال : بل هي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي منهم اثنان ، واستدل من قال برفعها بقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان : «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم » ، وهذا غفلة من هذا القائل ، ففي آخر الحديث «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة » ، فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها .

واختلفوا في وقتها فأكثر أهل العلم أنها مختصة برمضان ، واحتجوا بقوله تعالى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } [ البقرة : 185 ] . وقال تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } . فوجب أن لا تكون ليلة القدر إلا في رمضان لئلا يلزم التناقض . وروي عن أبي بن كعب أنه قال : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان ، حلف بذلك ثلاث مرات ، وعن ابن عمر قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر ، فقال : «هي في كل رمضان » ، وقيل : هي دائرة في جميع السنة لا تختص برمضان ، حتى لو علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لا يقع ما لم تنقض سنة من حين حلف ، يروى ذلك عن أبي حنيفة . وعن ابن مسعود أنه قال : من أراد أن يعرف ليلة القدر فلينظر إلى غرة رمضان ، أي : إلى أوّله ، فإن كان يوم الأحد فليلة القدر ليلة تسع وعشرين ، وإن كان يوم الاثنين فليلة القدر إحدى وعشرين ، وإن كان يوم الثلاثاء فليلة سبع وعشرين ، وإن كان يوم الأربعاء فليلة تسعة عشر ، وإن كان يوم الخميس فليلة خمس وعشرين ، وإن كان ليلة الجمعة فليلة سبعة عشر ، وإن كان يوم السبت فليلة ثلاث وعشرين . وعلى القول الأول هل هي في كل زمان أو في العشر الأخير ؟ قولان : أحدهما : أنها في كل شهره .

واختلفوا في ، أي ليلة منه ، فقال ابن رزين : هي الليلة الأولى من رمضان ، وقال الحسن البصري : السابعة عشر ، وقال أنس : التاسعة عشر ، وقال محمد بن إسحاق : الحادية والعشرون ، وقال ابن عباس : الثالثة والعشرون ، وقال أبيّ بن كعب : السابعة والعشرون . وقيل : التاسعة والعشرون ، وقيل : ليلة الثلاثين ، وكل استدل على قوله بما يطول الكلام عليه . والقول الثاني - وهو ما عليه الأكثرون - أنها مختصة بالعشر الأخير منه ، واستدل لذلك بأشياء منها : ما روى عبادة بن الصامت «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال : في رمضان ، فالتمسوها في العشر الأواخر » . ومنها : ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان » . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها » . وعنها قالت :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله » .

واختلفوا في أنها أي ليلة من العشر ، هل في ليلة من ليالي العشر كله ، أو في أوتاره فقط ، وهل تلزم ليلة بعينها ، أو تنتقل في جميعه أقوال . والذي عليه الأكثر أنها في جميعه ، ولكن أرجاها أوتاره ، وأرجى الأوتار عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين ، يدل للأوّل خبر الصحيحين ، وللثاني خبر مسلم ، وأنها تلزم عنده ليلة بعينها . وقال المزني صاحب الشافعي وابن خزيمة : إنها متنقلة في ليالي العشر جمعاً بين الأحاديث ، قال النووي : وهو قويّ . وقال في مجموعه : إنه الظاهر المختار ، وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر ، وبعضهم بأشفاعه .

وقال ابن عباس وأبيّ : هي ليلة سبع وعشرين ، وهو مذهب أكثر أهل العلم ، واستنبط ذلك بعضهم من أنّ ليلة القدر ذكرت ثلاث مرّات ، وهي تسعة أحرف ، وإذا ضربت تسعة في ثلاثة تكن سبعة وعشرين ، وبعضهم استنبط ذلك من عدد كلمات السورة ، وقال : إنها ثلاثون كلمة وفاقاً ، وقوله تعالى : { هي } السابع والعشرون ، وهي كناية عن هذه الليلة ، فبان أنها ليلة السابع والعشرين ، وهو استنباط لطيف ، وليس بدليل كما قيل ، وفيها نحو الثلاثين قولاً ، وبضع وعشرون حديثاً ، وأفردت بالتصنيف ، وفيما ذكرناه كفاية .

وذكروا للسبب في إخفائها عن الناس وجوهاً :

أحدها : أنه تعالى أخفاها ليعظموا جميع السنة على القول بأنها فيها ، أو جميع رمضان على القول به ، أو جميع العشر الأخير على القول به ، كما أخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في كلها ، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروها كلها ، وأخفى وليه من المسلمين ليعظموهم كلهم ، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في الدعوات ، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهدوا في العبادة في جميع الأوقات المنهيّ عنها طمعاً في إدراكها ، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل أسمائه تعالى ، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل ، وأخفى التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسامها ، وأخفى قيام الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة .

ثانيها : أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر واجتهد في الطاعة رجاء أن يدركها فيباهي الله تعالى به ملائكته ، ويقول : تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء وهذا جدّه واجتهاده في الليلة المظنونة ، فكيف لو جعلتها معلومة ، فحينئذ يظهر أني أعلم ما لا تعلمون .

ثالثها : ليجتهدوا في طلبها والتماسها فينالوا بذلك أجر المجتهدين في العبادة ، بخلاف ما لو عينت في ليلة بعينها لحصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها .