{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } مرتلات الألفاظ مبينات المعاني بنفسها أو ببيان الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو واضحات الإعجاز . { قال الذين كفروا للذين آمنوا } لأجلهم أو معهم . { أي الفريقين } المؤمنين والكافرين . { خير مقاما } موضع قيام أو مكانا . وقرأ ابن كثير بالضم أي موضع إقامة ومنزل . { وأحسن نديا } مجلسا ومجتمعا والمعنى أنهم لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها والدخل عليها ، أخذوا في الافتخار بما لهم حظوظ الدنيا والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم عند الله تعالى ، لقصور نظرهم على الحال وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا .
قرأ الأعرج وابن محيصن وأبو حيوة «يتلى » بالياء ، من تحت ، وسبب هذه الآية أن كفار قريش لما كان الرجل منهم يكلم المؤمن في معنى الدين فيقرأ عليه القرآن ويبهره بآيات النبي عليه السلام ، كان الكافر منهم يقول إن الله إنما يحسن لأحب الخلق إليه وإنما ينعم على أهل الحق ونحن قد أنعم الله علينا دونكم فنحن أغنياء وأنتم فقراء ونحن أحسن مجلساً وأجمل شارة فهذا المعنى ونحوه هو المقصود بالتوقيف في قوله { أي الفريقين } ، وقرأ نافع وابن عامر «مَقاماً » بفتح الميم { ولا مَقام لكم }{[8020]} [ الأحزاب : 13 ] بالفتح أيضاً ، وهو المصدر من قام أو الظرف منه أي موضع القيام ، وهذا يقتضي لفظ المقام إلا أن المعني في هذه الآية يحرز أنه واقع على الظرف فقط ، وقرأ أبيّ { في مُقام أمين } [ الدخان : 51 ] بضم الميم ، وقرأ ابن كثير «مُقاماً » بضم الميم وهو ظرف من أقام وكذلك أيضاً يجيء المصدر منه مثل { مجراها ومرساها }{[8021]} [ هود : 41 ] وقرأ { في مَقام أمين } [ الدخان : 51 ] { ولا مَقام لكم } [ الأحزاب : 13 ] بالفتح ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم جميعهن بالفتح ، وروى حفص عن عاصم «لا مُقام لكم » بالضم . و «الندي » والنادي المجلس فيه الجماعة ومن قول حاتم الطائي :
فدعيت في أولى الندي . . . ولم ينظر إليَّ بأعين خزر{[8022]}
عطف على قوله { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } [ مريم : 66 ] وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم .
والتّلاوة : القراءة . وقد تقدمت عند قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلو الشياطين على مُلك سليمان } في البقرة ( 102 ) ، وقوله : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } في أول الأنفال ( 2 ) . كان النبي يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير ، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة ، فكان المشركون يكذّبون بذلك ويقولون : لو كان للمؤمنين خير لعُجل لهم ، فنحن في نعمة وأهل سيادة ، وأتباع محمّد من عامة الناس ، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا ، ولو كنا عند الله كما يقول محمد لمنّ على المؤمنين برفاهية العيش فإنّهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتّبعناه ، قال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } [ الأنعام : 52 ، 53 ] ، وقال تعالى : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [ الأحقاف : 11 ] . فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلّقاً بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم . فالمراد بالآيات البيّنات : آيات القرآن ، ومعنى كونها بيّنات : أنّها واضحات الحجّة عليهم ومفعمة بالأدلّة المقنعة .
واللاّم في قوله { للّذين آمنوا } يجوز كونها للتّعليل ، أي قالوا لأجل الذين آمنوا ، أي من أجل شأنهم ، فيكون هذا قول المشركين فيما بينهم . ويجوز كونها متعلقة بفعل { قَالَ } لتعديته إلى متعلّقه ، فيكون قولهم خطاباً منهم للمؤمنين .
والاستفهام في قولهم { أيُّ الفريقين } تقريريّ .
وقرأ من عدا ابن كثير { مَقاماً } بفتح الميم على أنه اسم مكان مِن قام ، أطلق مجازاً على الحظ والرفعة ، كما في قوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربّه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ، فهو مأخوذ من القيام المستعمل مجازاً في الظهور والمقدرة .
وقرأه ابن كثير بضم الميم من أقام بالمكان ، وهو مستعمل في الكون في الدنيا . والمعنى : خيرٌ حياةً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا تتلى على الناس آياتنا التي أنزلناها على رسولنا محمد بينات، يعني واضحات لمن تأمّلها وفكّر فيها أنها أدلة على ما جعلها الله أدلة عليه لعباده، قال الذين كفروا بالله وبكتابه وآياته، وهم قريش، للذين آمنوا فصدّقوا به، وهم أصحاب محمد:"أيّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاما" يَعْني بالمَقام: موضع إقامتهم، وهي مساكنهم ومنازلهم "وأحْسَنُ نَدِيّا" وهو المجلس، يقال منه: ندوت القوم أندوهم نَدْوا: إذا جمعتهم في مجلس...
وتأويل الكلام: وإذا تُتلى عليهم آياتنا بيّنات، قال الذين كفروا للذين آمنوا: أيّ الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا، وأنعم بالاً، وأفضل مسكنا، وأحسن مجلسا، وأجمع عددا وغاشية في المجلس، نحن أم أنتم؟... عن ابن عباس "وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيّناتٍ قالَ الّذِينَ كَفَرُوا للّذِينَ آمَنُوا أيّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاما وَأَحْسَنُ نَدِيّا"؟ قال: المقام: المسكن، والنديّ: المجلس والنّعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون، حين أهلكهم وقصّ شأنهم في القرآن فقال: "كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتِ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ"...
عن قتادة، قوله: "وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهمْ آياتُنا بَيّناتٍ قالَ الّذِينَ كَفَرُوا للّذِينَ آمَنُوا أيّ الفَرِيقَينِ خَيْرٌ مَقاما وأحْسَنُ نَدِيّا"؛ رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة، وفيهم قَشافة، فَعَرّض أهل الشرك بما تسمعون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
خرج جواب ما احتج عليهم أهل الإيمان بالآيات التي ذكروا حجاجا عليهم، فيقولون: إنكم تقولون: عن الدنيا والآخرة لله فقد وسع علينا الدنيا، وضيق عليكم، فعلى ذلك يوسع الآخرة علينا كما فعل في الدنيا؛ إذ لا يجوز أن يوالينا في الدنيا، ويعادينا في الآخرة. وعلى هذا قولهم: {نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} {سبأ: 35} فظنوا أنه لما وسع عليهم، وأحسن لهم الندي والمجلس، كذلك يكونون في الآخرة، فأكذبهم الله، ورد عليهم ذلك،...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يعني إذا قُرِئَتْ عليهم آياتُ القرآن قابلوها بالردِّ والجحد والعتو والزيغ، ويَدَّعُون أنهم على حقٍ، ولا يعتمدون في ذلك إلا على الحَدْسِ والظَّنِّ...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وسبب نزول الآية: أن المشركين كانوا يقولون لفقراء المؤمنين: نحن أعز مجلسا، وأحسن مكانا، وأكثر مالا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمقام: موضع الإقامة، والمقام: فعل الإقامة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بينات} مرتلات الألفاظ، ملخصات المعاني: مبينات المقاصد: إما محكمات أو متشابهات، قد تبعها البيان بالمحكمات. أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً. أو ظاهرات الإعجاز تحدّى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججاً وبراهين. والوجه أن تكون حالاً مؤكدة كقوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} [البقرة: 91] لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة وحججاً {لِلَّذِينَ ءامنوا} يحتمل أنهم يناطقون المؤمنين بذلك ويواجهونهم به، وأنهم يفوهون به لأجلهم وفي معناهم، كقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]. قرأ ابن كثير «مقاماً» بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل، والباقون بالفتح وهو موضع القيام، والمراد المكان والموضع...
والمعنى: أنهم إذا سمعوا الآيات وهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وذلك مبلغهم من العلم، قالوا: أيّ الفريقين من المؤمنين بالآيات والجاحدين لها أوفر حظاً من الدنيا حتى يجعل ذلك عياراً على الفضل والنقص، والرفعة والضعة؟ ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزينة الفاخرة، ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
ومعنى الآية أن الله تعالى يقول: إذا أنزلنا آية فيها دلائل وبراهين أعرضوا عن التدبر فيها إلى الافتخار بالثروة والمال وحسن المنزل والحال.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان: أنهم يصدون عن ذلك، ويعرضون ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم: {خَيْرٌ مَقَامًا وأَحْسَنُ نَدِيًّا} [أي: أحسن منازل وأرفع دورًا وأحسن نديا]، وهو مجمع الرجال للحديث، أي: ناديهم أعمر وأكثر واردًا وطارقًا، يعنون: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك [الذين هم] مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟ كما قال تعالى مخبرًا عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]. وقال قوم نوح: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]؛ ولهذا قال تعالى رادًّا عليهم شبهتهم: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذا تتلى عليهم} أي الناس، من أيّ تال كان {ءاياتنا} حال كونها {بينات} لا مرية فيها، بأن تكون محكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو ببيان النبي صلى الله عليه وسلم فهي حال مؤكدة أو كاشفة {قال الذين كفروا} بآيات ربهم البينة، جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم {للذين ءامنوا} أي لأجلهم أو مواجهة لهم، إعراضاً عن الاستدلال بالآيات، ووجوه دلالتها البينات، بالإقبال على هذه الشبهة الواهية -وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا- من قولهم: {أي الفريقين} نحن -بما لنا من الاتساع، أم أنتم- بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال {خير مقاماً} أي موضع قيام أو إقامة -على قراءة ابن كثير بضم الميم والجماعة بفتحها: {وأحسن ندياً} مجمعاً ومتحدثاً باعتبار ما في كل من الرجال، وما لهم من الزي والأموال، ويجعلون ذلك الامتحان بالإنعام والإحسان دليلاً على رضى الرحمن، مع التكذيب والكفران، ويغفلون عن أن في ذلك- مع التكذيب بالبعث -تكذيباً مما يشاهدونه منا من القدرة على العذاب بإحلال النقم، وسلب النعم، ولو شئنا لأهلكناهم وسلبنا جميع ما يفتخرون به
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
الضمير في {عَلَيْهِمْ} راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله: {أَئذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} أي: هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعذروا بالدنيا، وقالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا، ولم يكن بالعكس، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعزّ أعداءه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: وإذا تتلى على هؤلاء الكفار آياتنا بينات، أي: واضحات الدلالة على وحدانية الله وصدق رسله، توجب لمن سمعها صدق الإيمان وشدة الإيقان، قابلوها بضد ما يجب لها، واستهزأوا بها وبمن آمن بها، واستدلوا بحسن حالهم في الدنيا، على أنهم خير من المؤمنين، فقالوا معارضين للحق: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} أي: نحن والمؤمنون {خَيْرٌ مَقَامًا} أي: في الدنيا، من كثرة الأموال والأولاد، وتوفر الشهوات {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أي مجلسا. أي:فاستنتجوا من هذه المقدمة الفاسدة، أنهم أكثر مالا وأولادا، وقد حصلت لهم أكثر مطالبهم من الدنيا، ومجالسهم وأنديتهم مزخرفة مزوقة. والمؤمنون بخلاف هذه الحال، فهم خير من المؤمنين، وهذا دليل في غاية الفساد، وهو من باب قلب الحقائق، وإلا فكثرة الأموال والأولاد، وحسن المنظر، كثيرا ما يكون سببا لهلاك صاحبه، وشقائه، وشره، ولهذا قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن هذا المشهد المفزع الذي يجثو فيه العتاة جثو الخزي والمهانة، ويروح فيه المتقون ناجين. ويبقى الظالمون فيه جاثين.. من هذا المشهد إلى مشهد في الدنيا يتعالى فيه الكفار على المؤمنين، ويعيرونهم بفقرهم، ويعتزون بثرائهم ومظاهرهم وقيمهم في عالم الفناء: وإذ تتلى عليهم آياتنا بينات. قال الذين كفروا للذين آمنوا: أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟.. إنها النوادي الفخمة والمجامع المترفة؛ والقيم التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور الفساد. وإلى جانبها تلك المجتمعات المتواضعة المظهر والمنتديات الفقيرة إلا من الإيمان. لا أبهة ولا زينة، ولا زخرف، ولا فخامة.. هذه وتلك تتقابلان في هذه الأرض وتجتمعان! وتقف الأولى بمغرياتها الفخمة الضخمة: تقف بمالها وجمالها. بسلطانها وجاهها. بالمصالح تحققها، والمغانم توفرها، وباللذائذ والمتاع. وتقف الثانية بمظهرها الفقير المتواضع، تهزأ بالمال والمتاع، وتسخر من الجاه والسلطان؛ وتدعو الناس إليها، لا باسم لذة تحققها، ولا مصلحة توفرها، ولا قربى من حاكم ولا اعتزاز بذي سلطان. ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف، عاطلة من كل زينة، معتزة بعزة الله دون سواه.. لا بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد والاستهتار، لا تملك أن تأجرهم على ذلك كله شيئا في هذه الأرض، إنما هو القرب من الله، وجزاؤه الأوفى يوم الحساب. وهؤلاء هم سادة قريش تتلى عليهم آيات الله -على عهد الرسول [ص]- فيقولون للمؤمنين الفقراء: (أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟) الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد، أم الفقراء الذين يلتفون حوله. أيهم خير مقاما وأحسن ناديا؟ النضير بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وإخوانهم من السادة، أم بلال وعمار وخباب وإخوانهم من المعدمين؟ أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر الذين لا قيمة لهم في مجتمع قريش ولا خطر؟ وهم يجتمعون في بيت فقير عاطل كبيت خباب؟ ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب النوادي الفخمة الضخمة والمكانة الاجتماعية البارزة؟ إنه منطق الأرض. منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان. وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء، عاطلة من عوامل الإغراء. ليقبل عليها من يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات؛ وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والزخرف، ومن يطلب المال والمتاع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله {ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً} [مريم: 66] وهذا صنف آخر من غرور المشركين بالدنيا وإناطتهم دلالة على السعادة بأحوال طيب العيش في الدنيا فكان المشركون يتشففون على المؤمنين ويرون أنفسهم أسعد منهم. والتّلاوة: القراءة. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على مُلك سليمان} في البقرة (102)، وقوله: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} في أول الأنفال (2). كان النبي يقرأ على المشركين القرآن فيسمعون آيات النعي عليهم وإنذارهم بسوء المصير، وآيات البشارة للمؤمنين بحسن العاقبة، فكان المشركون يكذّبون بذلك ويقولون: لو كان للمؤمنين خير لعُجل لهم، فنحن في نعمة وأهل سيادة، وأتباع محمّد من عامة الناس، وكيف يفوقوننا بل كيف يستوون معنا، ولو كنا عند الله كما يقول محمد لمنّ على المؤمنين برفاهية العيش فإنّهم في حالة ضنك ولا يساووننا فلو أقصاهم محمد عن مجلسه لاتّبعناه، قال تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 52، 53]، وقال تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11]. فلأجل كون المشركين كانوا يقيسون هذا القياس الفاسد ويغالطون به جعل قولهم به معلّقاً بزمان تلاوة آيات القرآن عليهم. فالمراد بالآيات البيّنات: آيات القرآن، ومعنى كونها بيّنات: أنّها واضحات الحجّة عليهم ومفعمة بالأدلّة المقنعة. واللاّم في قوله {للّذين آمنوا} يجوز كونها للتّعليل، أي قالوا لأجل الذين آمنوا، أي من أجل شأنهم، فيكون هذا قول المشركين فيما بينهم. ويجوز كونها متعلقة بفعل {قَالَ} لتعديته إلى متعلّقه، فيكون قولهم خطاباً منهم للمؤمنين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا 73}. هذه أحوالهم في الآخرة، ولكنهم عنها عمون، فقد حسبوا أن الآخرة – إن كانت في زعمهم – ستكون لهم كما أن الدنيا تكون لهم، ولذا كانوا يستمرئون عنهم، ولذا قال الله عنهم {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما، وأحسن نديا 73}. {وإذا تتلى عليهم آياتنا}، أي يتلى عليهم القرآن المنزل من الله تعالى، أي تقرأ آياته مرتلة واضحة بينة في ألفاظها وعباراتها المعجزة ومعانيها الواضحة الزاجرة الواعظة المبشرة المنذرة – أعرضوا عنها واستهزأوا بقراءتها وبالمؤمنين، وقالوا للذين آمنوا في شأنهم ساخرين منهم مستهزئين بهم ومستهينين بأمرهم: {أي الفريقين} المؤمن والكافر، والبر والفاجر {خير مقاما} ومنزلة {وأحسن نديا}، أي منتدى يجتمعون فيه ويسمرون، فهذا للأقوياء الكبراء ذوو المال والجاه والسطوة، وذلك للضعفاء والأرقاء المسترذلين. ومؤدى القول أن المؤمنين ضعفاء مسترذلون في ذات أنفسهم ومكانهم في هذه، والذين يخالفونهم في منتدى طيب ومال وفير وعزة في النفر، وإذا كانوا كذلك فلا بد أن يكون بعد ذلك كذلك إن كان بعث ونشور، ولا يظنونه، وهذا كقول قوم نوح له: {...وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي...27} (هود) ولقد قال في شأن الكافرين: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه...11} (الأحقاف)، فهم يتخذون من أن الذين آمنوا ضعفاء دليلا على البطلان، وذلك لغرورهم وضلالهم، وتلك فتنة وقعوا فيها، وذلك أنهم يحكمون على الأمر بأنه باطل لضعف أتباعهم، وبأنهم على حق بقوتهم، وتلك فتنة لهم، ولذلك قال تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين 53} (الأنعام).
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في الآية الأولى حكاية لموقف آخر من مواقف الكفار حيث كانوا حينما تتلى عليهم آيات القرآن يُبدون استكبارا وزهوا وخيلاء على المسلمين الذين كانت غالبيتهم ضعفاء وفقراء، ويسألونهم سؤال المعتدّ المزهوّ عن الأفضل مركزا، والأحسن حياة ومقاما ومجتمعا من الفرقين. وقد ردت الآية الثانية ردّا إنذاريّا قويّا عليهم؛ فلقد أهلك الله قبلهم كثيرا من الأمم والأجيال الذين كانوا أحسن منظرا وأكثر مالا ومتاعا منهم، كأنما تريد أن تقول لهم: إن الله الذي قدر على هؤلاء هو قادر عليكم وإن ما تتبجحون وتزهون به ليس برادّ عنكم قدر الله وعذابه. ونرجح مع ذلك أن الآية الأولى تحكي موقفا تجادل فيه بعض الكفار مع بعض المسلمين، فقال الكفار ما حكته الآية على سبيل التفاخر والتبجح وردت الثانية عليهم بردها القوي.
هذا حوار دار بين المؤمنين والكافرين، المؤمنين وكانوا عادة هم الضعفاء الذين لا يقدرون حتى على حماية أنفسهم، وليس لهم جاه ولا سيادة يحافظون عليها، وجاء منهج الله في صالحهم يسوي بين الناس جميعاً: السادة والعبيد، والقوي والضعيف. فطبيعي أن يقابل هذا الدين بالتكذيب من كفار مكة، أهل الجاه والسيادة، وأهل القوة الذين يأخذون خير الناس من حولهم، أما الضعفاء فقد آمنوا بدين الله في وقت لم يكن لديهم القوة الكافية لحماية أنفسهم، وفي هذا الحوار يعير الكفار المؤمنين بالله: ماذا أفادكم الإيمان بالله وهاأنتم على حال من الضعف والهوان والذلة وضيق العيش؟ أيرضى رب أن يكون المؤمنون به على هذه الحال، وأعداؤه والكافرون به هم أهل الجاه والسيادة وسعة الرزق. وهكذا فتن الله بعضهم ببعض.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا منطقٌ جديدٌ للكافرين في مواجهة المؤمنين، للإيحاء لهم بأن الإيمان لا يحقق للمؤمنين أية إيجابيات على مستوى السعادة في الحياة الدنيا، بينما يعيش الكافرون الحياة الرغيدة الحلوة التي تجعل لهم المواقع المتقدمة في حركة الحياة وقيادتها، ما يعني أن المسألة لا تحتمل الجدل ما دامت التجربة الحية هي المقياس الصحيح لسلامة أيّ خط فكريّ وعمليّ في الحياة، وذلك من خلال الفكرة التي تؤكد على أن الهدف الأساس من الاتجاهات التي يتبناها الإنسان هو تحقيق السعادة في الحياة، والوصول إلى الدرجات العليا في تأكيد ذاته ووجوده المتحرك في الكون. وقد ينفعل الكثيرون بهذا المنطق، فيسقطون أمامه، ويتحركون في تحديد هوية الانتماء الفكري والعملي، ولكن للقرآن منطقاً آخر يهزم هذا المنطق بطريقة أخرى، فلنتابع المسألة مع هذه الآيات. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّناتٍ} لتدفعهم إلى التفكير والتأمل والحوار، ولتفتح قلوبهم على آيات الله في الكون، لتقودهم إلى الإيمان بالله من موقع اليقين. ولكنهم لا يريدون أن يفتحوا عيونهم على عجائب خلق الله، أو يحركوا عقولهم في أسرار قدرته، أو يصغوا بأسماعهم إلى آياته المنزلة، أو ينطلقوا مع المؤمنين في الحوار الجاد..، بل يريدون أن يعيشوا اللهو والعبث واللامبالاة، ويستريحوا إلى رخاء الحياة من حولهم، ويدفعوا المؤمنين إلى الاستغراق في مباهجها ولذاتها...، فإذا جاءتهم آيات الله {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً} بما يمثله ذلك من سعة، وراحة، ورخاء، وجاه، ومال، وبنين، وصحة، وعافية، {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} بما يمثله ذلك من سكن، وموقع، ومجتمع يتميز بدرجاته العليا، وامتيازاته الرفيعة. إنهم يتساءلون بهذه الطريقة ليتطلع المؤمنون إلى ما حولهم، ليقارنوا بين مجتمع المؤمنين في بؤسه، وضعفه، وجهده، ومشاكله، وضيقه، وبين مجتمع الكافرين في سعادته الفائضة بالسرور، وفي قوته، وراحته، وسعته، ورخاء العيش فيه، فيتبدى لهم أن الإيمان لا يطعم أصحابه خبزاً، ولا يحقق لهم سعادة في الحياة الدنيا، ليعرفوا أن الحق في جانب الكافرين لا في جانبهم. ولكن الله يريد للإنسان أن ينفذ إلى عمق الأمور بعيداً عن سطحها، وإلى نهاياتها من دون الاقتصار على بداياتها. وهكذا أراد له أن يلتفت إلى أن الدنيا ليست نهاية المطاف في وجوده، فهناك آخرة تحمل في ساحاتها النتائج الحاسمة لعمله في الدنيا في ما يلتزمه من خطوط الخير والشر، والحق والباطل... فهناك عالم السعادة الذي يمثل العمق في حركة السعادة في وجوده، وهناك عالم الشقاء الحقيقي الذي لا سعادة معه. وبذلك لا تكون القيمة هي في ما يحصل عليه الإنسان في الدنيا لأنها ستزول عنه، وتزول معها كل مظاهر السعادة فيها...