أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلۡحَقَّ وَيَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (6)

{ ويرى الذين أتوا العلم } ويعلم أولو العلم من الصحابة ومن شايعهم من الأمة أو من مسلمي أهل الكتاب . { الذي أنزل إليك من ربك } القرآن . { هو الحق } ومن رفع { الحق } جعل هو مبتدأ و { الحق } خبره والجملة ثاني مفعولي { يرى } ، وهو مرفوع مستأنف للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات . وقيل منصوب معطوف على { ليجزي } أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق عيانا كما علموه الآن برهانا { ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } الذي هو التوحيد والتدرع بلباس التقوى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلۡحَقَّ وَيَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (6)

قال الطبري والثعلبي وغيرهما { ويرى } معطوف على ما قبله من الأفعال والظاهر أنه فعل مستأنف وأن الواو إنما عطفت جملة على جملة وكأن المعنى الإخبار بأن أهل العلم يرون الوحي المنزل على محمد حقاً وأنه يهدي إلى صراط الله ، وقوله { الذي أنزل } مفعول ب { يرى } ، و { الحق } مفعول ثان وهو عماد ، و { الذين أوتوا العلم } قيل هم أسلم من أهل الكتاب .

وقال قتادة هم أمة محمد المؤمنون به كان من كان ، { ويهدي } معناه يرشد ، و «الصراط » الطريق ، وأراد طريق الشرع والدين ،

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلۡحَقَّ وَيَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (6)

عطف على { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ سبأ : 4 ] وهو مقابل جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فالمراد بالذين سَعوا في الآيات الذين كفروا ، عدل عن جعل صلة اسم الموصول { كفروا } [ سبأ : 3 ] لتصلح الجملة أن تكون تمهيداً لإِبطال قول المشركين في الرسول صلى الله عليه وسلم { أفترى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 8 ] ، لأن قولهم ذلك كناية عن بطلان ما جاءهم به من القرآن في زعمهم فكان جديراً بأن يمهد لإِبطاله بشهادة أهل العلم بأن ما جاء به الرسول هو الحق دون غيره من باطل أهل الشرك الجاهلين ، فعطف هذه الجملة من عطف الأغراض ، وهذه طريقة في إبطال شُبَه أهل الضلالة والملاحدة بأن يقدم قبل ذكر الشبهة ما يقابلها من إبطالها ، وربما سلك أهل الجدل طريقة أخرى هي تقديم الشبهة ثم الكرور عليها بالإِبطال وهي طريقة عضد الدين في كتاب « المواقف » ، وقد كان بعض أشياخنا يحكي انتقاد كثير من أهل العلم طريقته فلذلك خالفها التفتزاني في كتاب « المقاصد » .

والحق أن الطريقتين جادّتان وقد سُلكتا في القرآن .

ويجوز أن تكون جملة { ويرى الذين أوتوا العلم } عطفاً على جملة { والذين سعوا في آياتنا معاجزين } [ سبأ : 5 ] فبعد أن أوردت جملة { والذين سعوا } لمقابلة جملة { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ سبأ : 4 ] الخ اعتبرت مقصوداً من جهة أخرى فكانت بحاجة إلى رد مضمونها بجملة { ويرى الذين أوتوا العلم } للإِشارة إلى أن الذين سعوا في الآيات أهل جهالة فيكون ذكرها بعدها تعقيباً للشبهة بما يبطلها وهي الطريقة الأخرى .

والرؤية علمية . واختير فعل الرؤية هنا دون ( ويعلم ) للتنبيه على أنه علم يقيني بمنزلة العِلم بالمرئيات التي علمها ضروري ، ومفعولا ( يرى ) { الذي أنزل } و { الحق } . وضمير { هو } فصل يفيد حصر الحق في القرآن حصراً إضافياً ، أي لا ما يقوله المشركون مما يعارضون به القرآن ، ويجوز أيضاً أن يفيد قصراً حقيقياً ادعائياً ، أي قصر الحقِّيَّة المحض عليه لأن غيره من الكتب خلط حقها بباطل .

و { الذين أوتوا العلم } فسره بعض المفسرين بأنهم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فيكون هذا إخباراً عما في قلوبهم كما في قوله تعالى في شأن الرهبان { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } [ المائدة : 83 ] ، فهذا تحدَ للمشركين وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وليس احتجاجاً بأهل الكتاب لأنهم لم يعلنوا به ولا آمن أكثرهم ، أو هو احتجاج بسكوتهم على إبطاله في أوائل الإسلام قبل أن يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم ويحتج عليهم ببشائر رسلهم وأنبيائهم به فعاند أكثرهم حينئذٍ تبعاً لعامتهم .

وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم .

والأظهر أن المراد من { الذين أوتوا العلم } مَن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن . وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه ، فقد كان الواحد من أهل مكة يكون فظًّا غليظاً حتى إذا أسلم رقّ قلبه وامتلأ صدره بالحكمة وانشرح لشرائع الإِسلام واهتدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم . وأول مثال لهؤلاء وأشهره وأفضله هو عمر بن الخطاب للبون البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإِسلام . وهذا ما أعرب عنه قول أبي خراش الهذلي خالطاً فيه الجد بالهزل :

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل *** سوى العدل شيئاً فاستراح العواذل

فإنهم كانوا إذا لقوا النبي صلى الله عليه وسلم أشرقت عليهم أنوار النبوءة فملأتهم حكمة وتقْوَى . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه : « لو كنتم في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأجنحتها » . وبفضل ذلك ساسوا الأمة وافتتحوا الممالك وأقاموا العدل بين الناس مسلمهم وذمِّيهم ومُعَاهَدِهم وملأوا أعين ملوك الأرض مهابة . وعلى هذا المحمل حمل { الذين أوتوا العلم } في سورة الحج ( 54 ) ويؤيده قوله تعالى : { وقال الذين أوتوا العلم والإيمان } في سورة الروم ( 56 ) .

وجملة { ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } في موضع المعطوف على المفعول الثاني ل { يَرَى } . والمعنى : يرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هادياً إلى العزيز الحميد ، وهو من عطف الفعل على الاسم الذي فيه مادة الاشتقاق وهو { الحق } فإن المصدر في قوة الفعل لأنه إما مشتق أو هو أصل الاشتقاق . والعدول عن الوصف إلى صيغة المضارع لإِشعارها بتجدد الهداية وتكررها . وإيثار وصفي { العزيز الحميد } هنا دون بقية الأسماء الحسنى إيماء إلى أن المؤمنين حين يؤمنون بأن القرآن هو الحق والهداية استشعروا من الإِيمان أنه صراط يبلغ به إلى العزة قال تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] ، ويبلغ إلى الحمد ، أي الخصال الموجبة للحمد ، وهي الكمالات من الفضائل والفواضل .