اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلۡحَقَّ وَيَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (6)

قوله : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } فيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على «لِيَجْزِيَ »{[44101]} . قال الزمخشري : أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء الساعة{[44102]} . وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق : «ليجزي » بقوله : «لَتَأتِيَنَّكُمْ » فبنى هذا عليه وهو من أحسن ترتيب{[44103]} .

والثاني : أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك{[44104]} و «الَّذِي أُنْزِلَ » هو المفعول الأول وهُو فَصْلٌ و «الْحَقَّ » مفعول ثانٍ ، لأن الرؤية عِلْميَّة{[44105]} ، وقرأ ابنُ أَبي عَبْلَةَ{[44106]} الْحَقُّ بالرفع على أنه خبر «هُوَ » والجملة في موضع المفعول الثاني وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل مبتدأ وخبر{[44107]} و «مِنْ رَبِّك » حال على القراءتين{[44108]} .

فصل

لما بين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سَعْيَه باطل فإن من أُوتِيَ علماً لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه ( الصلاة و ){[44109]} السلام حق وصدق وقوله : هُوَ الحَقّ يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأما قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خَصْمَان والنزاع لفظي فيكون قول كل واحد حقاً في المعنى{[44110]} ، قال المفسرون : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم } يعني مؤمني أهل{[44111]} الكتاب عبد الله بن سَلام وأصْحَابه { الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق } يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله .

قوله : { ويهدي } فيه أوجه :

أحدها : أنه مستأنف{[44112]} وفي فاعله احتمالان : أظهرهما : أنَّه ضمير «الَّذِي » وهو القرآن . والثاني : ضمير الله تعالى ويتعلق{[44113]} هذا بقوله : { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } ؛ إذ لو كان كذلك لقيل : إلى صِراطِهِ ويجاب بأنه من الالتفات ومن إبراز المضمر ظاهراً تنبيهاً على وصفه بهاتين الصِّفَتَيْنِ{[44114]} .

الوجه الثاني : أنه معطوف على موضع «الحق » و «أن » معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية .

الثالث : أنه عطف على «الحق » عَطْفَ فعل على اسم لأنه في تأويله{[44115]} كقوله تعالى : { صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] أي : وقَابِضَاتٍ كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله :

4106- فَألْفْيْتُهُ يَوْمًا يُبِيرُ عَدُوَّهُ . . . وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَخِفُّ المَعابِرَا{[44116]}

كأنه قيل : وليروه الحق وهادياً .

الرابع : أن «ويهدي » حال من «الَّذِي أُنْزِلَ » ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله :

4107- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . نَجَوْتُ وَأرَهْنُهُمْ مَالِكاً{[44117]}

وهو قليل جداً ، ثم قال : { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد التخويف والانتقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق .


[44101]:الدر المصون 4/410 والتبيان 1063 وبيان ابن الأنباري 2/274.
[44102]:قال: "أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا". الكشاف 3/280.
[44103]:الدر المصون 4/410.
[44104]:المراجع السابقة.
[44105]:التبيان 1063 والدر المصون 4/411 ومعاني الفراء 2/352 الذي أسماه –أي الضمير- بالعماد.
[44106]:لم يحددها أبو البقاء 1063 وقال ابن خالويه في المختصر :" من ربك هو الحق" بالرفع حكاه أبو معاذ: ابن خالويه 121.
[44107]:قال في المغني 496: "زعم البصريون أنه لا محل له ثم قال أكثرهم: إنه حرف فلا إشكال . وقال الخليل: اسم وقال الكوفيون : له محل. ثم قال الكسائي: محله بحسب ما بعده. وقال الفراء بحسب ما قبله فمحله بين المبتدأ والخبر رفع وبين معمولي "ظن" نصب، وبين معمولي كان رفع عند الفراء ونصب عند الكسائي وبين معمولي إن بالعكس. وقال الفراء في معانيه: ولو رفعت الحق على أن تجعل وهو اسما كان صوابا" المعاني 2/352. وقال في البحر 7/259: "وهو" فصل وهو مبتدأ والحق خبره والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ. قاله أبو عمر الجرمي.
[44108]:الدر المصون 4/411.
[44109]:سقط من "أ".
[44110]:هذا قول الفخر الرازي في تفسيره المسمى بالتفسير الكبير 25/243.
[44111]:الجامع لأحكام القرآن 14/261.
[44112]:الدر المصون 4/411.
[44113]:الأصح كما في "أ" والسمين "ويقلق".
[44114]:أورد هذه التوجيهات السمين في الدر 4/411 وانظر: التبيان 1063 والبحر المحيط 7/259.
[44115]:المراجع السابقة.
[44116]:البيت لنابغة ذبيان وهو من الطويل ويبير: يهلك، والمعابر: جمع معبر وهو الجمل الكثير الوبر، والشاهد:"ومجر عطاء" عطف الاسم هذا على الفعل وهو يبير. ديوان النابغة 71، وقد تقدم.
[44117]:هذا عجز بيت من المتقارب أنشده صاحب اللسان لهمام بن مرة بينما نسبه الجوهري لعبد الله بن همام السلولي وصدره: فلما خشيت أظافيرهم ....................... وقد روي البيت: "بأرهنهم" و: "أرهنتهم" وأنكر بعضهم الرواية الأخيرة، وانظر: اللسان : "رهن" والصحاح للجوهري. وقال ثعلب: الرواة كلهم على أرهنتهم. والشاهد "وأرهنهم" حيث هو خبر لمبتدأ محذوف والجملة حالية وحتى تكون في حاليتها تلك يتحتم علينا أن نقدر أحد جزئيها وهو المبتدأ كقولهم: قمت وأصك عينه أي وأنا أصك. وقد تقدم.