نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَٱلطَّيۡرَ مَحۡشُورَةٗۖ كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (19)

ولما أخبر سبحانه عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها له ، أتبعها أخفها وأكثرها انتقالاً ، وعبر فيها بالاسم الدال على الاجتماع جملة والثبات لأنه أدل على القدرة فقال معبراً باسم الجمع دون الجمع إشارة إلى أنها في شدة الاجتماع كأنها شي واحد ، ذكر حالها في وصف صالح للواحد ، وجعله مؤنثاً إشارة إلى ما تقدم من الرخاوة اللازمة للإناث المقتضية لغاية الطواعية والقبول لتصرف الأحكام : { والطير } أي سخرناها له حال كونها { محشورة } أي مجموعة إليه كرهاً من كل جانب دفعة واحدة - بما دل التعبير بالاسم دون الفعل وهو أدل على القدرة وهي أشد نفرة من قومك وأعسر ضبطاً وهذا كما كان الحصى يسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يد بعض أصحابه ، وكما تحرك الجبل فضربه برجله وقال : " اسكن أحد " فسكن ، وكما حشر الدبر على رأس عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح رضي الله عنه فمنع من أخذه ليتلعب به ، فلما جاء الليل أرسل الله سيلاً فاحتمله إلى حيث لم يعرف له خبر ولا وقف له على أثر { كل } أي كل واحد من الجبال والطير { له أواب * } أي رجاع لأجل داود عليه السلام خاصة عن مألوفه لا بمعنى آخر مما ألفته ، فكلما رجع هو عن حكمه وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق رجعت معه بذلك الجبال والطير ، وجعل الخبر مفرداً إشارة إلى أنها في الطواعية في التأديب قد بلغت حتى كأنها الشيء الواحد ، ولم يجعل مؤنثا إشارة إلى شدة زجلها بالتأديب وعظمته ، والإفراد أيضاً يفيد الحكم على كل فرد ، ولو جمع لطرقه احتمال أن الحكم على المجموع يقيد الجمع ، فكأن داود عليه السلام يفهم تسبيح الجبال والطير ، وينقاد له كل منهما إذا أمره بالتسبيح ، وكل من تحقق بحاله ساعده كل شيء - قاله القشيري ، ففي هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنا متى شئنا جعلنا قومك معك في التسخير هكذا ، فلا تيأس منهم على شدة نفرتهم وقوة سماجتهم وغرتهم ، فإنا جعلناهم كذلك لتروض نفسك بهم وتزداد بالصبر عليهم جلالاً ، وعلواً ورفعة وكمالاً - إلى غير ذلك من الحكم التي لا تسعها العقول ، ولا تيأس من لينهم لك ورجوعهم إليك فإنهم لا يعدون أن يكونوا كالجبال قوة وصلابة ، أو الطير نفرة وطيشاً وخفة ، فمتى شئنا جعلناهم لك مثل ما جعلنا الجبال والطير مع داود عليه السلام ، بل أمرهم أيسر وشأنهم أهون .