نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

ولما كان للإنسان عند وقوع الخسران أقوال وأحوال لو تخيلها قبل هجومه لحسب حسابه فباعد أسبابه . علل الإقبال على الاتباع بغاية الجهد والنزاع فقال : { أن } أي كراهة أن { تقول } ولما كان الموقع للإنسان في النقصان إنما هو حظوظه وشهواته المخالفة لعقله ، عبر بقوله : { نفس } أي عند وقوع العذاب لها ، وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد { يا حسرتى } والتحسر : الاغتمام على ما فات والتندم عليه ، وألحق الألف بدلاً من الياء تعظيماً له ، أي يا طول غماه لانكشاف ما فيه صلاحي عني وبعده مني فلا وصول لي إليه لاستدراك ما فات منه ، وذلك عند انكشاف أحوالها ، وحلول أوجالها وأهوالها ودل على تجاوز هذا التحسر الحد قراءة أبي جعفر " حسرتاي " بالجميع بين العوض وهو الألف والمعوض عنه وهو الياء ، وحل المصدر لأن ما حل إليه أصرح في الإسناد وأفخم ، وأدل على المراد وأعظم ، فقال : { على ما فرطت } أي بما ضيعت فانفرط مني نظامه ، وتعذر انضمامه والتئامه .

ولما كان حق كل أحد قريباً منه حساً أو معنى حتى كأنه إلى جنبه ، وكان بالجنب قوام الشيء ولكنه قد يفرط فيه لكونه منحرفاً عن الوجاه والعيان ، فيدل التفريط فيه على نسبة المفرط لصاحبه إلى الغفلة عنه ، وذلك أمر لا يغفر ، قال : { في جنب } وصرف القول إلى الاسم الأعظم لزيادة التهويل بقوله : { الله } أي حق الملك الأعظم الذي هو غير مغفول عنه ولا متهاون به .

ولما كان المضرور المعذب المقهور يبالغ في الاعتراف ، رجاء القبول والانصراف ، قال مؤكداً مبالغة في الإعلام بالإقلاع عما كان يقتضيه حاله ، ويصرح به مقاله ، من أنه على الحق واجد الجد : { وإن } أي والحال أني { كنت } أي كان ذلك في طبعي { لمن الساخرين * } أي المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها ، وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة ، أي تقول : هذا لعله يقيل منها ويعفي عنها على عادة المترققين في وقت الشدائد ، لعلهم يعادون إلى أجمل العوائد .