التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{فَوَرَبِّكَ لَنَحۡشُرَنَّهُمۡ وَٱلشَّيَٰطِينَ ثُمَّ لَنُحۡضِرَنَّهُمۡ حَوۡلَ جَهَنَّمَ جِثِيّٗا} (68)

جثيّا : جاثمين على ركبهم كناية عن الخضوع والذل .

{ ويَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا 66 أَولَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئًا 67 فَورَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا 68 ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمان عِتِيًّا 69 ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا 70 وإِن مِّنكُمْ إِلَّا وارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا 71 ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ونَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا 72 } [ 66 72 ] .

في الآية الأولى حكاية لتساؤل الإنسان تساؤل المستغرب أو المنكر عما إذا كان حقّا سيبعث حيا بعد موته ؟ وفي الثانية ردّ على الجواب بصيغة التساؤل الإنكاري أيضا عما إذا كان هذا المنكر لا يذكر ولا يعترف بأن الله تعالى خلقه من العدم حتى يشك في قدرة الله على إحياء بعد موته . أما الآيات التالية للآيتين فقد جاءت للاستطراد والتعقيب واحتوت إنذارا ووعيدا للكافرين المكذبين عامة ولأشدهم تمردا وعصيانا بصورة خاصة . فقد أقسم الله بعزته أنه سيحشرهم ومعهم شياطينهم وسيجمعهم حول جهنم أذلاّء صاغرين وأنه سيختص بالعذاب الأشد أشدهم عصيانا لله وتمردهم عليه . ولقد روى الطبرسي بدون ذكر راو أن الإنسان الذي حكت الآية الأولى قوله وردت الآية الثانية عليه هو أبيّ بن خلف أحد زعماء المشركين الأشداء في مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار البعث . والروايات محتملة ؛ لأنه ليس كل إنسان يقول هذا القول ، حتى تؤخذ العبارة على مداها المطلق .

والإنذار في الآيات قوي رهيب ، ولاسيما للفئات الأشد مناوأة للنبي صلى الله عليه وسلم وتمردا على الله تعالى ، ومتناسب مع مواقفهم في معارضة الدعوة إلى الله تعالى وتعطيل رسالة رسوله فضلا عن كفرهم .

والرواية تذكر موقفا للزعيم الكافر ولا تذكر أن الآيات نزلت بسببه . ولا يذكر المفسرون الآخرون مناسبة لنزولها . ويتبادر لنا أنها ليست منفصلة عن السياق السابق . ففي هذا السياق تنديد بالذين أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات فجاءت هذه الآيات لتذكر موقفا من مواقف هؤلاء الجحودين بالآخرة .

على أننا نلحظ من ناحية أخرى أن الآيات الآتية احتوت حكاية بعض أقوال ومواقف الكفار مثلها بحيث يسوغ القول أيضا : إن هذه الآيات بداية الشطر الثاني من السورة من حيث إن الشطر الأول تناول ذكر الأنبياء والتعقيب عليه ، في حين أن هذه الآيات وما بعدها تناولت أقوال ومواقف كفار العرب والتعقيب عليها . هذا مع التنبه أولا : على أننا نرجح أن هذه الآيات وما بعدها لم تنزل منفصلة عن بعضها وفور صدور كل موقف وقول حكتهما عن الكافر وإنما احتوت عرضا لهذه المواقف والأقوال جملة واحدة ؛ لأن وحدة روي الفصول تلهم أنها نزلت متلاحقة .

وثانيا : إن قولنا إن الآيات بداية لشطر ثان للسورة لا يعني أن الشطرين منفصلان عن بعضهما أيضا ، حيث يلمح التساوق بينها من حيث إن الشطر الأول حكى قصص الأنبياء وأخلافهم والشطر الثاني حكى مواقف الكفار وقصصا متناسبة مع مواقف أولئك الأخلاف . ووحدة الروي إلى هذا جامعة بين الشطرين . ومع أن الإنذار الموجه لهذه الفئة بخاصة ولكفار العرب في زمن النبي بعامة فإن المتبادر أن ما احتوته الآيات من تقرير وتنديد وإنذار هو عام التوجيه مستمر المدى لكل متمرد على الله ورسالة رسوله ومناوئ لها وصادّ عنها وكافر بها . وقد استثني المتقون من المصير الرهيب المنذر به . ومع ما في هذا الاستثناء من تطمين وبشرى للذين استجابوا للدعوة النبوية في زمن النبي فهو كذلك عام مستمر المدى لكل مؤمن متّق .

ونقول هنا ما قلناه في مناسبة سابقة : إن الآيات تسجل واقع الكفار وزعمائهم حين نزولها . وإن الإنذار الرهيب إنما يظل قائما بالنسبة لمن أصرّ ومات على كفره وتمرده منهم .

واختصاص الذين اتقوا بالنجاة ذو مغزى كبير سواء في تطمين هذه الفئة وبثّ الاغتباط فيها أم في الحث على التقوى التي هي أبرز مظاهر الإيمان . لأنها تجعل المؤمن مراقبا لله في جميع أعماله وتعصمه من الوقوع في الأمم على ما شرحناه في سياق سورة العلق .

تعليق على جملة

{ وإن منكم إلا واردها }

لقد تعددت الأحاديث والروايات والتأويلات في كتب التفسير في صدد هذه الجملة .

ففي معنى كلمة ( الورود ) إنها بمعنى الدخول وإن الضمير في كلمة ( واردها ) يرجع إلى جهنم . أو إنها بمعنى المرور عليها دون الدخول فيها .

وفي مدى جملة { وإن منكم } إنها خطاب لجميع الناس أبرارهم وفجارهم . ومؤمنيهم وكافريهم ، وقد استدل القائلون بدخول الناس جهنم بالآية [ 72 ] آخر الآيات التي نحن في صددها ، وبأحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الطبري عن حفصة قالت " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية . قالت : فقلت يا رسول الله أليس الله يقول { وإن منكم إلا واردها } . فقال رسول الله : أفلم تسمعيه يقول { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ونَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } " وهذا الحديث لم يرد في كتب الصحاح . وهناك أحاديث أخرى يوردها المفسرون من بابه لم ترد كذلك في هذه الكتب . وهناك قولان متناقضان معزوان إلى ابن عباس : واحد مؤيد للقول السابق ، وواحد يفيد أن الخطاب في ( منكم ) للكفار ومنكري البعث . وأن المؤمنين لا يردون النار .

وأورد بعض المفسرين اعتراضا على القول الأول بآية سورة الأنبياء هذه { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ 101 لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ 102 } وأجابوا على الاعتراض بأن القصد يمكن أن يكون ذلك وهم في الجنة أو يمكن أن يكون القصد من ذلك أن النار تكون عليهم حينما يردونها بردا وسلاما .

وهناك أحاديث عديدة نبوية تفيد أن الناس جميعهم يمرون على صراط فوق جهنّم يهوى فيها من يستحقها وينجو المتقون . من هذه الأحاديث ما لم يرد في كتب الصحاح ومنها الوارد في هذه الكتب . ومما ورد في هذه الكتب حديثان طويلان في الشفاعة ، روى واحدا الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه " ثمّ يضربُ الصّراط بين ظهراني جهنّم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمّته ، ولا يتكلم أحد يومئذ إلا الرسل . وكلام الرسل اللهمّ سلّم اللهمّ سلّم " {[1346]} . وروى ثانيهما مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه " وترسل الأمانة والرحمُ ، فتقومان جنبي الصراط يمينا وشمالا ، فيمرّ أوّلكم كالبرق ، ثم كمرّ الريح ، ثم كمرّ الطير ، وتجري بالرجال أعمالُهم ، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا . قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلّقة مأمورة تأخذ من أمر الله بأخذه . فمخدوش ناج ومكدوس في النار " {[1347]} .

ولقد صوب الطبري تأويل الورود في الآية بالمرور على الصراط فوق النار فيسقط الظالمون وينجو المتقون بناء على هذه الأحاديث .

والمستفاد من أحاديث الشفاعة المشار إليها أن الذين في قلوبهم إيمان لا يخلدون في النار إذا ارتكبوا آثاما . فهم يسقطون فيها عن الصراط ليقضوا مدة عذابهم ثم يخرجون إلى الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخلد في النار من الساقطين فيها إلا الكفار .

ومهما يكن من أمر فالإيمان واجب بما جاء في القرآن وبما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية . مع تكرار القول أنها من المتشابهات التي يجب إيكال تأويلها إلى الله تعالى واستشفاف ما في ذكرها بالأسلوب الوارد من حكمة . والملموح من الآيات والأحاديث أن من هذه الحكمة الترهيب للكفار والآثمين والترغيب للمؤمنين المتقين وحفز الأولين على الإرعواء عن كفرهم وآثارهم ، والآخرين على الاستكثار من الأعمال الصالحة المنجية واجتناب الآثام .

ولسنا نرى هذا مانعا من القول بالنسبة للعبارة القرآنية ذاتها : إن القول المعزو إلى ابن عباس بأنها خطاب للكفار لا يخلو من وجاهة . قد يؤيدها مجموع الآيات روحا ونصا . لاسيما أن الآيات الثلاث الأخيرة قد جاءت بمثابة تعقيب استطرادي على الآيتين اللتين تحكيان قول الزعيم المشرك وتردان عليه . والله تعالى أعلم .


[1346]:التاج ج 5 ص 342 ـ350.
[1347]:المصدر نفسه.