التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡـًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا} (20)

19

مسألة المغالاة في المهور

ولقد روى المفسرون في سياق الآية ( 20 ) أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس في خلافته فقال ( ما إكثاركم في صداق النساء ، وقد كان الصداق في عهد النبي وأصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك . ولو كان في الإكثار تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم . ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ، قال : نعم . فقالت : أما سمعت ما أنزل الله ؟ قال وأي ذلك ؟ فقالت : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب وفي رواية فمن طابت نفسه فليفعل ) {[509]} ورووا روايات أخرى من بابها جاء في إحداها أن عمر ابن الخطاب قال : لا تغالوا في مهور النساء فقالت امرأة ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ) فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته{[510]} . وجاء في إحداها أن عمر قال : ( لا تزيدوا في مهور النساء فقالت امرأة : ما ذاك لك ، قال : ولم ؟ قالت : إن الله قال ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) الآية فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ ) {[511]} وجاء في إحداها أن عمر قال : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من الفضة ، فمن زاد جعلت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة : ما ذاك لك ؟ قال لم ؟ قالت : إن الله يقول : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) الآية فقال : امرأة أصابت وأخطأ عمر{[512]} .

وهذه الروايات لم ترد في الصحاح ، وقد روى أصحاب السنن حديثا فيه نهي من عمر عن المغالاة في المهور فقط عن أبي العجفاء قال ( خطبنا عمر فقال : ألا لا تغالوا بصداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ) {[513]} .

على أن عدم ورود قصة اعتراض إحدى النساء على عمر في هذا الحديث لا يمنع أن تكون روايته المروية بصيغ وطرق عديدة صحيحة . ولئن صحت فيكون فيه صورة رائعة عن العهد الراشدي . منها نباهة المرأة العربية وقدرتها على استنباط الأحكام من القرآن . وجرأتها على الدفاع عن حقوقها . وإقرار الرجال وفي مقدمتهم الخليفة وبذلك منها تراجع الخليفة عن وصية وصاها حينما نبهته المرأة إلى احتمال مخالفة الوصية للتلقين القرآني .

والمتبادر أن إيعاز عمر كان اجتهادا منه فيه مصلحة للمسلمين . وهناك حديث رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه ( إن من خير النساء أيسرهن صداقا ){[514]} وحديث ثان رواه أحمد والحاكم والبيهقي جاء فيه ( إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها{[515]} ومن المحتمل أن يكون عمر قد استأنس بهذه الأحاديث وأمثالها في إيعازه .

وفي سورة النور آية على تلقين قوي بوجوب تيسير الزواج لكل فئة وبخاصة للفقراء مما لا تيسير إلا بعدم المغالاة في المهور وهي ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم32 ) .

وحتى على فرض صحة رواية احتجاج المرأة على عمر وتراجعه عن إيعازه ، فإنه ليس في الآية ما يصح الاستدلال به على أن المبلغ الكبير الذي عنته بلفظ القنطار هو المهر فقط ؛ حيث يمكن أن يكون مجموعة عطايا من الزوج . وعبارتها تهدف إلى حماية المرأة وعدم ابتزاز ما صار حقها الشرعي من مال أعطاه لها زوجها فيه المهر وغير المهر مهما كثر . ويظل تلقين آية سورة النور والأحاديث النبوية وإيعاز عمر واردا واجب الاحترام بل ومخولا للحكام الإشراف على مقادير المهور ومنع المغالاة فيها في كثير من الظروف التي لا يكون أكثر الناس فيها قادرين على دفع مهور عالية ؛ حيث يؤدي هذا إلى تعسير الزواج وتزايد الأيامى أي العزاب من رجال ونساء وعبيد وإماء وبعبارة أخرى إلى تعطيل أمر الله الوارد في آية سورة النور . أما القادرون فالذي يتبادر لنا أنه ليس في التلقين المشار إليه ما يحول دون زيادة المهر بينهم عن المقدار المحدد في الروايات المروية . ولعل حكمة عدم تحديد المقدار في الكتاب والسنة مع حضهما على التساهل فيه بالنسبة للناس الذين لا يقدرون على الكثير وهم الأكثرية الساحقة تلمح في كون طبيعة الحياة التي فيها التفاوت في المقدرة والمراتب الاجتماعية لا تتعارض مع الزيادة بالنسبة للقادرين ، بل تجعل ذلك مما لا يمكن تفاديه . وهكذا تتسق الشريعة الإسلامية مع مصلحة الأكثرية الساحقة من الناس ومع طبيعة الحياة في مختلف الظروف ، وهذا من مرشحاتها للشمول والخلود . ولقد روى أبو داود والنسائي وأحمد حديثا عن أم حبيبة أم المؤمنين قالت : ( إنها كانت تحت عبد الله ابن جحش فمات بأرض الحبشة فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها منه أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل ابن حسنة ){[516]} حيث يمكن الاستئناس بهذا على ما قلناه . والله سبحانه أعلم .


[509]:النص منقول عن ابن كثير
[510]:النص منقول عن ابن كثير
[511]:المصدر نفسه
[512]:من رشيد رضا
[513]:التاج ج 2 ص 270 وقيمة الاثنتي عشرة أوقية (480) درهما على ما جاء في شرح الحديث وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة يؤيد ما جاء في الحديث المروي عن عمر جاء فيه (سألت عائشة كم كان صداق رسول الله قالت كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا. أتدري ما النش قال لا. قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم) انظر التاج ج 2 ص 269.
[514]:انظر تفسير الآية في تفسير المنار
[515]:المصدر نفسه
[516]:التاج ج 2 ص 270