التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

( 4 ) المحصنات من النساء : كلمة المحصنات جاءت في مقامات في القرآن في معان متنوعة . منها الحرائر ومنها العفيفات ومنها المتزوجات والجمهور على أنها هنا بالمعنى الأخير ، وهو الملموح من روح الآية .

( 5 ) أجورهن : بمعنى مهورهن

( 6 ) فريضة : مفروضة متفقا عليها

23

تعليق وتمحيص في صدد نكاح المتعة

ولقد كانت جملة ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) موضوع تأويلات وروايات عديدة ومختلفة{[522]} . منها أنها في معنى كون المهور الواجب إعطاؤها للنساء هي مقابل استمتاع الرجال بهن بالنكاح وكونها يجب أن تكون مقدارا معينا متفقا عليه ، مع رفع الحرج عن الزوجين فيما يتراضيان عليه بعد ذلك فيه ، إذا ما طرأت ظروف تدعو إلى تبديل من زيادة أو نقص أو تسامح . . . الخ وأن الاستمتاع هو كناية عن الوطء الذي يباح للرجال بعد العقد وأداء المهر . ومنها أن الجملة احتوت إباحة نكاح المتعة . وهو عقد بين امرأة ورجل على مدة معينة يستمتع بها فيها لقاء أجر معين ، فإذا انتهت المدة انفسخ العقد دون تطليق مع جواز التراضي على تمديد المدة لقاء أجر جديد . وكان هذا جاريا عند العرب قبل الإسلام .

ومع أن في استنباط إباحة نكاح المتعة من العبارة تحميلا لا تتحمله هي وبقية الآية والآيات السابقة ، وأن التأويل الذي تقدم هو الأوجه حسب ما يتبادر لنا مع التنبيه إلى نقطة هامة ، وهي أن المهر ليس مقابل الوطء فحسب ، وإنما هو لتوطيد الميثاق الزوجي بصورة عامة ، فإن المفسرين جميعهم أداروا الكلام في سياق هذه الآية على نكاح المتعة .

ولقد عزوا إلى ابن عباس أقوالا ليس منها شيء واردا في الصحاح . منها أن الآية محكمة في إباحة نكاح المتعة ، وأنه كان يزيد بعد عبارة ( فما استمتعتم به منهن ) جملة ( إلى أجل مسمى ) ( البقرة : 282 ) وأن أبا نضرة قال له : ما أقرؤها كذلك ، فقال له : والله إن الله أنزلها كذلك ثلاث مرات . ومنها أن عمارا سأل ابن عباس عن المتعة فقال له : هي متعة لا سفاح ولا نكاح ولا طلاق ولا توارث ، ومنها أنه قال لما كثر كلام الناس عن إباحته للمتعة وانتشارها : أنا ما أفتيت بها على الإطلاق ، وإنما قلت تحل للمضطر كما تحل الميتة له . ومنها أنه رجع عن قوله وقال بتحريمها وأن الآية الأولى من سورة الطلاق نسختها .

ولقد أوردوا أحاديث فيها إباحة للمتعة ثم تحريم لها . وفي بعضها تناقض في الوقت نفسه . حيث روي النهي في ظروف وقعة خيبر ، بينما رويت الإباحة في ظروف فتح مكة التي كانت بعد خيبر بسنتين . ومن هذه الأحاديث حديث رواه الشيخان عن جابر وسلمة قالا ( كنا في جيش فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا ) {[523]} ومنها حديث عن سبرة الجهني رواه الإمام أحمد جاء فيه ( أن سبرة غزا مع رسول الله في فتح مكة قال : فأقمنا بها خمس عشرة ، فأذن لنا رسول الله في متعة النساء ، فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال ، وهو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد ، وبردي خلق وبرد ابن عمي جديد غض . حتى إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها تلقتنا فتاة مثل البكرة العطنطة . فقلنا : هل لك أن يستمتع منك أحدنا ؟ فقالت : وماذا تبذلان ؟ فنشر كل منا برده فجعلت تنظر إلى الرجلين ويراها صاحبي تنظر إلي بعطفها . فقال : إن برد هذا خلق وبردي جديد غض فتقول : برد هذا لا بأس به ثلاث مرات أو مرتين ثم استمتعت منها ) {[524]} ومنها حديث رواه الخمسة عن علي ابن أبي طالب ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية ) {[525]} ومنها حديث رواه مسلم عن سلمة قال ( رخص النبي عام أوطاس في المتعة ثلاثا ، ثم نهى عنها ) {[526]} ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن سبرة قال ( رأيت رسول الله قائما بين الركن والباب وهو يقول : يا أيها الناس إني قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) {[527]} ومنها عن عمر بن الخطاب أنه قال ( نهى النبي عن المتعة وأيما رجل أو امرأة يأتوني بهما فسوف أرجمهما بالحجارة ) .

ومع أن الخمسة رووا عن علي ابن أبي طالب أن النبي نهى عن المتعة يوم خيبر على ما أوردناه قبل ، فقد روى عنه قوله ( لولا أن عمر نهى عن المتعة لما زنى إلا شقي ) {[528]} حيث توهم الرواية أن عمر نهى عنها اجتهادا . ويستعبد جدا صدور هذا القول من علي الذي روى أن النبي هو الذي نهى عنها ؛ ولأن فيه اتهاما لعمر أنه نهى عن شيء كان سائغا في حياة النبي . والرواية المروية عن عمر التي تذكر أنه نهى عن المتعة استنادا إلى نهي النبي عنها هي الأكثر وجاهة وورودا .

ومن باب الرواية الآنفة الذكر المروية عن علي ثلاث روايات أخرى . واحدة عن عمران بن الحصين أنه قال ( إن آية المتعة نزلت في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها ، وإن رسول الله أذن لنا وتمتعنا ولم ينهنا عنها . فقال رجل بعده وبرأيه ما شاء ) {[529]} والرجل المقصود هو عمر . وواحدة جاء فيها ( سئل جابر ابن عبد الله عن المتعة فقال : نعم استمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ) {[530]} وواحدة بدون راو عن عمر ابن الخطاب أنه قال : ( متعتان كانتا على عهد رسول الله حلال وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، وهما متعة النكاح ومتعة الحج ) {[531]} .

والروايات الأربع التي يرويها الطبرسي الشيعي لم ترد في الصحاح ولم يوردها الطبري ولا البغوي ولا ابن كثير ولا الخازن الذين اهتموا لاستيفاء الروايات والأحاديث المأثورة في سياق الآيات عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم باستثناء الأولى التي أوردها الطبري وحده . وإيراده لها لا يثبتها ؛ لأن الحديث الذي يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها والذي يرويه الخمسة هو الأوثق . ورواية الروايات الأربع مجتمعة في تفسير الطبرسي الشيعي ، والراجح أنها وردت في كتب تفسير شيعية قبله وبعده تثير الشبهة في صنعها من الشيعة الذين يحللون المتعة ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم : لم يحرمها وإنما حرمها عمر ، والذين يحاولون تشويه اسم عمر رضي الله عنه في كل مناسبة لهواهم الحزبي ، ولو كان ذلك في مناسبات وصيغ لا تتسق معه عقل ومنطق وتخرج عمر من ربقة الإسلام في نسبة تحريم ما أحله الله ورسوله والعياذ بالله كما جاء في الرواية الرابعة مما أوردنا منه أمثلة كثيرة . ولا يمكن أن يعقل صدور هذا من عمر ، وأن يسكت أصحاب رسول الله ويرضوا عنه ومن جملتهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين .

وعلى كل حال فإن جل أئمة السنة وعلمائها انتهوا إلى القول بأن تحريم المتعة صار محكما . أما أئمة الشيعة فإنهم انتهوا إلى القول بأن إباحتها هي التي ظلت محكمة ؛ حيث يبدو أنهم لا يثبتون أحاديث تحريمها ويثبتون أحاديث حلها من جهة ، وما روي عن ابن عباس في صدد تأويله للآية واعتباره إياها محكمة في حل المتعة من جهة ثم ما روى عن علي وعمران ابن الحصين وعبد الله ابن جابر من أن عمر هو الذي حرمها وأنها كانت حلالا ممارسا في عهد النبي ، ثم في عهد أبي بكر وشطر من عهد عمر من جهة .

والنفس تطمئن بما انتهى إليه أئمة السنة أكثر ، ولا سيما إن الآية التي جاءت فيها العبارة والآيات السابقة لها منصبة على الزواج وتعظيم رابطته ووجوب الاحتفاظ بالزوجات وحسن معاشرتهن وتحمل ما يكره منهن والإحصان والأولاد والمواريث والمهور وما يحل التزوج به من النساء وإبطال بعض عادات الجاهلية منه مثل نكاح زوجة الأب والجمع بين الأختين . ثم ننبه على كون الزواج هو للإحصان وليس للشهوة فحسب وننهى عن قصد السفاح . والمتعة على كل حال ليست نكاحا ولا إحصانا في معناهما ومداهما الصحيحين ، ولا تخرج عن كونها نوعا من أنواع المخادنة ، وليس فيها قصد تأسيس علاقة زوجية ثابتة وإقامة كيان أسروي وإنجاب ذرية مما هو منطو في الآيات . ويتبادر لنا من كل ما روي وقيل : إن مسألة المتعة وحلها وتحريمها متصلة بما روي من أحاديث أكثر مما هي منطوية في الجملة القرآنية . وإن من المحتمل أن تكون مما أباحها رسول الله في ظرف ثم نهى عنها .

ولقد روي حديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير جاء فيه ( إن خولة بنت حكيم دخلت على عمر ابن الخطاب فقالت له : إن ربيعة ابن أمية استمتع بامرأة فحملت منه ، فخرج فزعا يجر رداءه فقال : هذه المتعة لو كنت تقدمت فيها لرجمت ) وحديث آخر أخرجه الإمام مسلم عن عروة أيضا جاء فيه ( إن عبد الله ابن الزبير قام بمكة فقال : إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى بصائرهم يفتون بالمتعة ، يعرض بذلك بعبد الله بن عباس - فناداه عبد الله إنك لجلف جاف لعمري ، لقد كانت المتعة على عهد إمام المتقين ( يعني النبي صلى الله عليه وسلم ) فقال له ابن الزبير : فجرب بنفسك ، فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجاري ) والحديثان يفيدان أن عبد الله ابن الزبير يعتبر المتعة زنا يستحق حد الزنا . وأن عمر أوشك أن يعتبرها كذلك . غير أن الحديثين لم يردا في الصحاح ، وأن المستفاد من أقوال جمهور الفقهاء السنيين أنها وإن كانت محرمة فلا يوقع فيها حد الزنا للشبهة القائمة حول حلها وحرمتها عملا بالقاعدة الشرعية المشهورة ( ادرأوا الحدود بالشبهات ) {[532]} ونعتقد أن بين أئمة الشيعة الذين يقولون بإباحتها علماء مجتهدين وأتقياء ورعون يبعد أن يحرموا ويحللوا جزافا دون قناعة بقطع النظر عن احتمال الخطأ والصواب في ذلك . هذا إلى أنهم قد يرون في إباحة هذا النكاح حكمة وهي منع المسلم من الوقوع في إثم الزنا أو العنت الشديد بالحرمان . والله أعلم .


[522]:انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري وغيرهم، وقد ألم بهذا الموضوع وما دار حوله وما ورد فيه جميع المفسرين، ومنهم من تبسط ومنهم من أوجز، ومنهم من أورد الروايات والأقوال والتأويلات المختلفة أيضا.
[523]:انظر أيضا التاج ج 2 ص 306
[524]:انظر أيضا مجمع الزوائد ج 4 ص 364
[525]:انظر أيضا التاج ج 2 ص 306
[526]:المصدر نفسه
[527]:المصدر نفسه
[528]:أورد هذه الروايات المفسر الطبرسي الشيعي.
[529]:أورد هذه الروايات المفسر الطبرسي الشيعي
[530]:روى الروايتين الطبرسي أيضا
[531]:المصدر نفسه
[532]:هذه القاعدة مستمدة من أحاديث عديدة منها حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي جاء فيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) التاج ج3 ص 33 ومنها حديث رواه ابن ماجة عن أبي هريرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا) ومنها حديث رواه عبد الله ابن مسعود مرفوعا (ادرأوا الحدود بالشبهات. ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم) نيل الأوطار للشوكاني ج 7 ص 271ـ 272 الطبعة المنيرية