التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرٞ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ تُسۡـَٔلُونَ} (44)

وإنه لذكر لك ولقومك : إن فيه لشرفا لك ولقومك ، أو إن فيه لتذكيرا لك ولقومك والأكثر على القول الأول .

تعليق على آية

{ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ( 44 ) }

وجملة { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ( 44 ) } تحتمل أن يكون معناها : إنه لشرف لك ولقومك ، أو : إنه لتذكير لك ولقومك وسوف تسألون عن موقفكم منه وجهدكم في سبيله ، وأكثر الأقوال والروايات في جانب القول الأول ، وهو ما يؤيده إشراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب .

وهي على هذا تتضمن معنى جليلا في صدد ما ناله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه من كرامة وشرف بسبب الرسالة المحمدية سواء أكان تعبير { ولقومك } كناية عن العرب كما قال بعض المفسرين ، أم عن قبيلة قريش كما قال بعض آخر ، وتعبير { وسوف تسألون ( 44 } يتضمن تقرير كون قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حملوا من قبل الله تعالى واجبا عظيما مقابل ما نالوه من شرف وكرامة إزاء الدعوة ومبادئها وتعاليمها سواء في الاستجابة إليها والعمل بموجبها أم في القيام بعبء نشرها وبثها والدفاع عنها ، وفي هذا ما فيه كذلك من معنى جليل وواجب خطير ، وتلقين مستمر المدى وتقرير لشأن العرب عامة أو قريش خاصة ومسؤوليتهم بين سائر الأمم الإسلامية ، وحفز لهممهم وجهدهم وجهادهم ، وسنزيد هذا الموضوع شرحا في تفسير الآية الأخيرة من سورة الحج إن شاء الله .

وفي سورتي البقرة والحج آيات تؤيد هذا التلقين والتقرير وهي هذه :

1- { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا . . . . . } [ البقرة/ 143 ] .

2- { وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس . . . . . . . . . } [ الحج/ 78 ] .

وتأييد آية سورة الحج بنوع خاص أقوى وأوكد ؛ لأن قصد العرب أو قريش فيها أصرح من حيث إنها ذكرتهم بأبوة إبراهيم لهم التي يعرفونها ، ويعترفون بها على ما تقدم ذكره قبل قليل .

وكلمة { وسطا } تعني الخيار بين الناس لأن خير الأمور أوسطها ، وكلمة { شهداء } تعني مراقبين وعدولا نتيجة لكونهم وسطاء .

ولقد أول بعض المفسرين{[1845]} كلمة { ولقومك } بأمتك وجعلوها شاملة لجميع المسلمين ، ونحن ما زلنا نرجح المفهوم السابق ؛ لأن العرب وقريشا بخاصة كانوا هم موضوع الكلام والخطاب والدعوة حين نزول الآية ، ولأن تأييد آية سورة الحج بخاصة قوي بل حاسم .

وتبعا لهذا أو نتيجة له يصح أن يقال : إنه صار للعرب رسالة إنسانية وعالمية خالدة لما في القرآن والحكمة النبوية من معجزات باهرة وتشريعات ومبادئ خالدة تستجيب لكل حاجة من حاجات البشر وتحل كل مشكلة من مشاكلهم في كل ظرف من ظروفهم . وسواء في ذلك المسائل والمشاكل والشؤون الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والأسرية والإنسانية أم المسائل والمشاكل الروحية والإيمانية والعقيدية مع سعة غير محدودة في الأفق ، ومرونة كبرى في التطبيق وسمو لا يدانى في الأسس والأهداف يكفل تقدم معتنقيها قدما إلى أسمى ذرى الكمال الإيماني والروحي والعلمي والتشريعي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي والاقتصادي والأسري والإنساني بكل قوة وسرعة ودون ما أي عائق وجمود وتعقيد . وإمدادهم بأسباب الصيانة الروحية والأخلاقية ، وإمدادهم بذخر من الفيض الروحي الذي يحول بين فراغ النفس واليأس والانهيار في الأزمات ويدفع عنهم نوازع الشر والأنانية والهدم إذا هم فهموها ساروا على نهجها بإيمان وصدق خلافا لما يتوهم الذين لم يدرسوها دراسة واعية{[1846]} بحيث كان ذلك حكمة الله العظمى في ترشيحها لتكون دين البشرية عامة ، ووعد الله تعالى بتمكينها في الأرض كما جاء في آية سورة الفتح هذه : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا( 28 ) } وآيات سورة التوبة هذه : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون( 32 ) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( 33 ) } وآية سورة النور هذه : { وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } [ 55 ] . وإنه صار كذلك من واجب العرب وحقهم الاعتزاز وبذل الجهد في إصلاح أنفسهم على أضوائها ليكونوا لائقين لها قادرين على القيام بواجبهم نحوها . بل إن هذا الاعتزاز بهذه الرسالة الإنسانية العالمية الخالدة هو من حق العرب غير المسلمين ونعني المسيحيين - لأنه ليس هناك عرب غير مسلمين غيرهم- وواجبهم إذا كانوا صادقين ومخلصين حقا في شعورهم القومي ؛ لأن العروبة إذا ما تجردت عن هذه الرسالة فقدت ميزة عظمى تتميز بها بين الأمم . وليس من شأن هذا أن يتناقض مع المسيحية التي انتقلت إليهم من أسلافهم آليا لأسباب وظروف مختلفة ، ولا سيما إن الرسالة الإسلامية شقيقة متممة للرسالة المسيحية ، وإن المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم يمتان إلى الجنس العربي . وكل ما في الأمر أن الأول يمت إلى جيل سابق لدور العروبة الصريح ، وقد أوجب كتاب الله وسنة رسوله على المسلمين احترامه وتكريمه وتقديسه والاعتراف بنبوته وصلة الله به ومعجزة ولادته .

وكل هذا يجعل الذين يحاولون فصل الإسلام عن العروبة من العرب سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين مستحقين لنعت المجرم القومي أو الدعي القومي . من حيث إن ميزة الإسلام هي ميزة العروبة الكبرى من شأنها أن تمد العرب والإنسانية بأرقى ما يمكن أن يتصور من مثل عليا وقيم أخلاقية وحوافز قوية نحو الخير والتقدم والرقي والتكامل في كل مجال من مجالات الحياة المادية والمدنية ويكون العرب بها وحسب أصحاب رسالة عالمية خالدة ، ومن حيث إن فقد العرب لهذه الميزة خسارة بل كارثة قومية وإنسانية . كما يجعل المسلمين الذين يحاولون فصل العروبة عن الإسلام سواء أكانوا عربا أم غير عرب منحرفين عن ما قرره القرآن من شأنية العرب العظمى في الرسالة الإسلامية المتمثلة في حكمة الله عز وجل بجعل نبيها عربيا وكتابها عربيا وبجعل العرب أمة وسطا شهداء على الناس وتقرير مسؤوليتهم عنها .

وإذا كنا نقول إن من حق العرب وواجبهم أن يعتزوا بالرسالة الإسلامية وأن يبذلوا جهدهم لإصلاح أنفسهم حتى يكونوا لائقين بها وقادرين على القيام بواجبهم نحوها فإن غير العرب من المسلمين لا يفقدون هذا الحق ولا يرتفع عنهم هذا الواجب ؛ لأن كل ما اتصفت به الرسالة الإسلامية وهدفت إليه قد صار وصفا وهدفا للمسلمين جميعهم .

{ أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ( 40 ) فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ( 41 ) أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ( 42 ) فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ( 43 ) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ( 44 ) واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ( 45 ) } [ 40 – 45 ] .

وجه الخطاب في الآيات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتقول له :

1- إنه ليس من شأنه ولا واجبه أن يسمع الأصم أو يجعل الأعمى يرى أو يقنع من كان مرتكسا في ضلال عن عمد ومكابرة وعناد .

2- وإن هؤلاء لن يعجزوا الله في أي حال ، فهو قادر عليهم منتقم منهم سواء أعاش حتى يرى تحقيق وعيد الله فيهم بعينيه ، أم جاءه قضاء الله قبل ذلك وذهب به .

3- وإن المطلوب منه هو الاستمساك بما أوحى الله إليه به فهو على طريق الله المستقيم ، وفيه ذكر وشرف خالدان له ولقومه وهم مسؤولون عن تبعته وحقه أمام الله .

4- وإن الله لا يمكن أن يكون قد أذن للناس أن يعبدوا إلها غيره ، وهذا مؤيد بشهادة الرسل الذين أرسلهم الله قبله فليسألهم ليتأكد من ذلك .

والآيات متصلة بموضوع الآيات السابقة التي نددت بالكفار المشركين ووصفت شدة عنادهم ومكابرتهم . وفيها تثبيت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في موقفه ودعوته ، وتسرية عنه لما يلقاه من عناد الكفار ومكابرتهم . وفيها تدعيم للتأويل الذي أولنا به الآيات السابقة وبخاصة تعبير { ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين ( 36 ) } .

والآية الأخيرة هي على ما يتبادر للرد على المشركين في زعمهم أن ما هم عليه هو من هدى الله وأن لو شاء لما عبدوا الملائكة وأشركوهم معه . وأسلوبها أسلوب تحد ونفي معا . والمفسرون{[1844]} يروون عن ابن عباس قولين في المقصود من جملة : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } أحدهما أن الله عز وجل جمع المرسلين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء وأمره أن يسألهم ولكنه لم يشك ولم يسأل ، وثانيهما أن الجملة عنت أهل الكتاب أو مؤمني أهل الكتاب ، ومعظم المفسرين أخذوا بهذا القول وهو الأوجه . وفي القرآن آيات عديدة فيها أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باستشهاد أهل الكتاب مما يدعم هذا القول . ومن ذلك آية سورة يونس هذه : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ( 94 ) } وفي سورة الأنبياء آية في نفس الصدد الذي جاءت فيه الآية هي : { أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ( 24 ) } وجملة { وذكر من قبلي } بمعنى كتب الأنبياء من قبلي أو أخبارهم .


[1844]:انظر تفسير الآية في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي والزمخشري.

[1845]:انظر تفسيرها في تفسير النسفي.
[1846]:ناقشنا هذا الموضوع بالذات في مقدمة كتابنا (الدستور القرآني في شؤون الحياة) مناقشة وافية، وفي هذا الكتاب فصول وشروح في مبادئ وتعاليم وأهداف وأحكام وتلقينات القرآن ما يلجم كل مكابر ممار. ومثل هذا بارز واضح فيما مر وفيما يأتي من أجزاء هذا التفسير وفي خلال آلاف الأحاديث الصحيحة يبدو نور النبوة الوهاج الذي يتساوق مع القرآن في مثل تلك المبادئ والتعاليم والأهداف والأحكام والتلقينات. وهناك شهادات تحصى لعلماء الغرب الاجتماعيين بما كان من أثر ذلك فيما قام من حضارة عربية إسلامية باذخة في القرون الإسلامية الأولى في مشارق الأرض ومغاربها. هذه واحدة نوردها نشرت في ظرف كتابة هذا التعليق في العدد الثالث من السنة الخامسة من مجلة (حضارة الإسلام) التي تصدر في دمشق (جمادى الأولى 1384)، مقتبسة من كتاب (قانون التاريخ لجوفيه كستلو) قال: (كان التقدم العربي بعد وفاة الرسول عظيما، جرى على أسرع ما يكون وكان الزمان مستعدا لانتشار الإسلام فنشأت المدنية الإسلامية نشأة باهرة قامت في كل زمان ومكان مع الفتوحات بذكاء غريب ظهر أثره في الفنون والآداب والشعر والعلوم وقبض العرب بأيديهم خلال عدة قرون على مشعل النور العقلي وتمثلوا جميع المعارف البشرية التي لها مساس بالفلسفة والفلك والكيمياء والطب والعلوم الروحية، فأصبحوا سادة الفكر مبدعين ومخترعين لا بالمعنى المعروف بل بما أحرزوا من أساليب العلم التي استخدموها بقريحة وقادة للغاية. وكانت المدنية العربية قصيرة العمر إلا أنها باهرة الأثر، وليس لنا إلا إبداء الأسف على اضمحلالها). ومصداق هذا وتفصيله مبثوث في الكتب العربية التي وصل إلينا بعضها وضاع كثير منها. وخبوء نور المدنية العربية الإسلامية إنما كان بسبب ما قام بين العرب من فتن واندس من دسائس وتغلب عليهم نتيجة لذلك من متغلبين جهلاء. وقد نوهنا بشهادات علماء العرب لأن كثيرا من الذين يتسمون بالقومية العربية يحاولون فصل الإسلام عن العروبة أو أكثرهم قد نشأوا نشأة غربية وكانوا وظلوا غرباء عن النشأة العربية الإسلامية.