التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞۗ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِهِمۡ لِيُجَٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ} (121)

فسق : عصيان الله .

{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( 118 ) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( 119 ) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ( 120 ) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ( 1 ) وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( 121 ) }[ 118 – 121 ] .

في الآيات أمر رباني موجه للمسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وتحذير لهم بعدم التردد في ذلك لأن الله تعالى قد بين لهم ما حرم عليهم في غير ظروف الاضطرار ، وإشارة إلى أن كثيرا من الناس يفعلون ما يفعلون بسائق الهوى فينحرفون عن سبيل الله وتقرير بأن الله تعالى يعلم الذين يتجاوزون الحدود التي رسمها ويعتدون في تصرفاتهم . وأمر آخر للمسلمين بالابتعاد عن الإثم ظاهره وباطنه وعلنه وسره ، وإنذار للذين يقترفون الإثم بأنهم سينالهم القصاص الحق العادل ونهي للمسلمين عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأن ذلك يجعله فسقا وإثما وخروجا على أوامر الله وحدوده . وتنبيه إلى أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم ليجادلوا المسلمين في هذه المواضيع وتحذير للمسلمين من مجاراتهم ومطاوعتهم لأنهم بذلك يغدون مشركين مثلهم .

تعليق على آية

{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ }

والآيات الثلاث التالية لها

وجمهور المفسرين على أن الذي أمر المسلمون بأكله إذا ذكر اسم الله عليه في الآيات ونهوا عن أكله إذا لم يذكر اسم الله عليه هو المواشي والذبائح . وهذا مؤيد بآيات قرآنية أخرى جاء فيها ذكر ذلك صراحة وهي آية سورة المائدة :

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 3 ) } .

والآيات وإن كانت تبدو فصلا جديدا فإن مما يمكن أن يستلهم من مضمونها ومضمون سابقاتها أنها غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة لها وأنها متصلة بما كان يقوم بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة ، والكفار من جهة ثانية من مواقف جدلية متنوعة مما حكته فصول السورة .

ولقد أورد المفسرون{[931]} في سياقها روايات متنوعة ، ذكر فيها أن المشركين أو اليهود كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه النقطة . وهناك رواية تذكر أن أناسا من المسلمين قالوا يا رسول الله كيف نأكل ما نقتله ، ولا نأكل ما يقتله الله فنزلت الآية [ 114 ] .

ورواية المجوس تبدو غريبة جدا ، وأكل الميتة عند اليهود محرم فلا يعقل أن يكون من المنتقدين لعدم أكل الميتة أو المجادلة فيه . وأوثق الروايات هو الرواية الأخيرة فقد رواها الترمذي عن ابن عباس{[932]} والروايات الأخرى لم ترد في كتب الصحاح .

ويلحظ من جهة أن الآيات ليست في صدد أكل الميتة وإنما هي في صدد الحث على الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، وأن الآية [ 114 ] من جهة أخرى من سلسلة متكاملة فضلا عن الاتصال الملموح بين هذه السلسلة وبين الآيات السابقة .

ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنه كان يقع بين المسلمين والمشركين جدل ومناظرات في صدد الذبائح ، فالمشركون كانوا يأكلون ما يموت حتف أنفه ولم يكونوا يذكرون كذلك اسم الله تعالى على ما يذبحونه .

وتلهم أن بعض النبهاء من الزعماء كانوا يلقنون الذين يتصلون بالمسلمين من الكفار ما يجادلونهم به من حجج ، وأن بعض المسلمين كانوا يترددون في هذه الأمور لسابق عهدهم بالتقاليد التي كانوا يجرون عليها قبل إسلامهم . فنزلت الآيات للقضاء على هذا التردد ، ولبيان الأمور بصورة حاسمة على الوجه الذي جاءت به ، وللتنبيه إلى أن التقاليد الجاهلية ليست قائمة على علم وحق وإنما هي بنت الأوهام والأهواء والظنون ، وأن السير على هذه التقاليد ومطاوعة المشركين فيها هو شرك .

وهكذا تكون الآيات من الفصول الحاسمة التي جاءت لهدم تقليد من تقاليد الشرك والجاهلية .

ولقد أشكل على المفسرين محتوى الآية الثانية التي تذكر أن الله قد فصل للمسلمين ما حرم عليهم ؛ لأن ذلك لم يرد في السور السابقة في النزول سورة الأنعام . وبعضهم قال : إن تفصيل ذلك ورد في آية سورة المائدة التي أوردنا نصها قبل قليل . وبعضهم أنكر ذلك لأن سورة المائدة مدنية ورد التفصيل إلى ما احتوته آيات تأتي قريبا في سورة الأنعام{[933]} وهو وجيه مع فرض أن الآيات المذكورة نزلت مع هذه الآيات دفعة واحدة وهو فرض في محله .

ولم نر المفسرين فيما اطلعنا عليه يتعرضون لتعليل تردد المسلمين في أكل ما كان يذكر اسم الله عليه حتى اقتضت حكمة التنزيل إباحته والحث عليه بالأسلوب القوي الذي جاءت عليه الآيتان الأولى والثانية . ولقد روى المفسرون في سياق آية سورة الحج هذه : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ( 28 ) }

أن العرب كانوا لا يأكلون ما يقربونه لآلهتهم أو ينذرون تقريبه لهم . فلما أسلم منهم من أسلم وصاروا يذكرون اسم الله على القرابين التي يقربونها لله في موسم الحج وغيره ، أو ينذرون تقريبها لله ظلوا على عادتهم في الامتناع عن الأكل منها . والمتبادر أن الوارد في الآية متصل بذلك .

وللفقهاء أقوال متنوعة في صدد هذا الموضوع على ما ورد في كتب التفسير ، فبعضهم أوجب ذكر اسم الله جهرا عند ذبح الذبيحة ، وبعضهم قال : تكفي النية . وبعضهم قال بحل الذبيحة التي يذبحها المسلم ولو نسي ذكر الله عليها ، أو حتى لو تعمد عدم ذكره . وبعضهم قال بحل ما نسي دون العمد . وبعضهم توقف في الذبيحة التي لا يعرف بجزم أنها ذكر اسم الله عليها . وبعضهم أباح ذلك إذا كان يعرف يقينا أن الذابح مسلم . وهناك أحاديث نبوية صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني على الأرجح في هذا الصدد لم نر بأسا في إيراد ما فيه التوضيح في مناسبة التشريع الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها . منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد .

ومن الأول حديث رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة ( قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا ، أنأكل منها ؟ فقال سموا الله وكلوا ){[934]} . ومن الثاني أحاديث أوردها ابن كثير واحد بتخريج الحافظ بن عدي عن أبي هريرة قال : ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي فقال النبي : اسم الله على كل مسلم ) . وواحد بتخريج البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكل ) . وواحد بتخريج أبي داود عن الصلت السدوسي قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر ، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله ) .

وتعليقا على ذلك نقول : إنه يتبادر لنا أن المقصود بحل أكل ما يذكر اسم الله عليه من الذبائح وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه هو تثبيت فكرة الله وحده في نفوس المسلمين ومخالفة المشركين الذين كانوا يغفلون عن ذلك أو يذبحون لشركائهم أو يشركون شركاءهم مع الله عند الذبح . وأن المحرم هو ما ذبحه المشركون الذين يعرف يقينا أنهم لا يذكرون اسم الله وحده . وأن القول بجواز ذكر الله سرا أو نية من قبل المسلم أو حل ذبيحة المسلم لو نسي ذكر الله صواب حتى لو لم تصح الأحاديث التي أوردها ابن كثير . أما القول بحل ذبيحة المسلم إذا تعمد عدم ذكر الله ففيه نظر فيما يتبادر لنا ؛ لأنه مخالف لنص الآية بدون عذر لنسيان . وصفة المسلم لا تكفي هنا إزاء النص فضلا عن إثم هذا المسلم لتعمده إساءة الأدب مع الله بعدم ذكره اسمه مع إيجاب القرآن ذلك .

وللفقهاء كلام في صدد ذبيحة الكتابي على ما جاء في كتب التفسير ، فمنهم من أحلها إطلاقا لنص آية المائدة هذه : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [ 5 ] ومنهم من أحلها إذا تيقن المسلم أنهم لم يذكروا اسم المسيح أو مريم عليها وحرمها إذا تيقن لأن القرآن حرم أكل ما يهل به لغير الله على ما جاء في آية سورة المائدة الثالثة وغيرها وأجازها إذا لم يتيقن من ذلك . ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله تعالى أعلم .

وهناك أحاديث وأقوال أخرى في صدد المحرمات من الحيوانات وكيفيات الذبح سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة .

تعليق على جملة

{ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }

لقد احتوت هذه الجملة مبدأ من المبادئ القرآنية الجليلة وهو رفع الحظر عن المنبهات حين الاضطرار .

ومع أنه جاء هنا وتكرر أكثر من مرة في صدد الذبائح والأطعمة المحرمة مما سيأتي مثال له في آيات قريبة من هذه السورة فإن هناك آيات أخرى تلهم أنه من المبادئ القرآنية العامة ، ومنها آية سورة النحل هذه : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( 106 ) } .

وواضح أن القرآن في إقراره هذا المبدأ قد تمشى مع ظروف الحياة وطبائع الأمور ، من حيث إن الأوامر والنواهي إنما يمكن تنفيذها ضمن نطاق الإمكان والوسع وانتفاء الخطر والضرر والاضطرار ، وهذا المبدأ شبيه لمبدأ عدم تكليف الله نفسا إلا وسعا الذي شرعناه في سياق الآية [ 42 ] من سورة الأعراف وأوردنا في مناسبته أحاديث عديدة متساوية مع التلقين القرآني ، والأحاديث واردة بالنسبة لهذا المبدأ كما هي بالنسبة لذاك ويحسن بالقارئ أن يرجع إليها لتكون الصورة ماثلة له وهو يقرأ هذه الكلمة .

وبمثل هذا المبدأ وذاك صلحت الشريعة الإسلامية للخلود والتطبيق في كل ظروف ومكان . والمتبادر أن القاعدة الشرعية القائلة ( الضرورات تبيح المحظورات ) قد استندت إلى هذا المبدأ . وهناك آيات قررت بصراحة أن حالة الاضطرار التي تبيح المحظور يجب أن تكون بقدر الضرورة وعدم تجاوز هذا الحد ، منها الآية [ 145 ] من سورة الأنعام الآتية قريبا ، وهذا مما يقف دون القول إن هذا المبدأ قد يفتح باب التساهل على مصراعيه فينشأ عنه تجاوزات دينية وغير دينية ؛ لأن الذين لا يتقيدون بالضرورة عند الاضطرار يعتبرون خارجين عن نطاق الكلام في صدد التقيد بالمبادئ القرآنية والانتفاع بها بطبيعة الحال .

تعليق على جملة

{ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ }

هذه الجملة وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار عليه الكلام في الآيات فإن إطلاقها يجعل تنديدها وإنذارها عامين . ولقد قرئت الياء في ( ليضلون ) بالفتح من الضلال وبالضم من الإضلال . ومقامها يحتمل القراءتين وإن كنا نرجح الفتح . وعلى كل حال فإن فيها تنديدا بكل من يرتكس في الضلال متأثرا بهواه وهوى الآخرين بدون علم وبرهان . وبكل من يضل الناس بهواه بدون علم وبرهان كذلك معتديا ومتجاوزا لحدود الحق والصدق إلى الباطل والحلال إلى الحرام واليقين إلى الشبهات . مما يمكن أن يشمل كل شأن من شؤون الدين والدنيا . وفي هذا ما فيه من تلقين جليل مستمر المدى بوجوب عدم تنطع أحد من المسلمين للكلام والدعوة والوعظ والإيعاز والفتيا مندفعا بالهوى متجاوزا حدود الحق والصدق غير مستند إلى علم وبرهان ، وبوجوب تثبيت المسلم في كل قول يسمعه ورأي يلقى إليه أو عمل يوعز به إليه أو مذهب يزين له . فلا يأخذ من ذلك إلا ما برئ من الهوى وقام على صحته وسلامته وحقه وصدقه علم وبرهان .

وفي القرآن آيات كثيرة مكية ومدنية فيها تنديد بمن يتبع الهوى ويأمر به ويتخذه إلهه دون الحق والصدق ويفتري على الله ورسوله فيقول هذا حلال وهذا حرام . وهذا يجوز وهذا لا يجوز وهذا حق وصواب وهذا باطل بدون علم وبرهان . مما مر منه أمثلة عديدة حيث يدل على ما أعارته حكمة التنزيل لهذا الأمر من اهتمام وعناية .

ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان من عليه من الإثم آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ){[935]} وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد غيره فقد خانه ){[936]} ، وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ){[937]} .

تعليق على آية

{ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ }

هذه الآية قد تكون متصلة بالموضوع الذي جاء في الآيات التي هي جزء من سلسلتها . وبسبيل التنبيه إلى وجوب الوقوف في استباحة المحظور في حالة الاضطرار في نطاق الضرورة . بمعنى آخر بسبيل الاستدراك لما يمكن أن ينشأ عن إباحة المحظورات عند الاضطرار من سوء تأويل وتوسع فعلى المسلم أن يبتعد عن الإثم في سره وعلنه وظاهره وباطنه دون تأول وتوسع ومحاولة تبرير غير صادقة . وهذا تلقين جليل كما هو ظاهر ومستمر المدى ، كما أنه يزيل ما توهمه الآية من غرابتها على الموضوع والسياق . على أن إطلاق الأمر الرباني في الآية يجعلها جملة قائمة بذاتها أيضا . ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره في مدى { ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } عن أهل التأويل في صدر الإسلام . منها أن ( الظاهر هو ما حرم الله من الأنكحة والباطن الزنا السري ) ومنها ( الظاهر هو كل ما عصى به الله وانتهكت به محارمه علنا ، والباطن كل ما كان من ذلك سرا ) . ونرى القول الثاني هو الأوجه المتساوق مع إطلاق العبارة . وعلى كل حال فالجملة تنطوي من ناحية الإطلاق على تلقين من أروع التلقينات وأجلها . فيه إيقاظ لضمير المسلم وتنبيه له إلى وجوب تجنب الإثم والبغي مطلقا ، وليس في حالة العلن التي قد يترتب عليها ضرر للشخص من الناس والسلطان فيجعله يمتنع من ذلك بل وفي حالة السر أيضا التي قد لا يترتب عليها مثل هذا الضرر المانع . ثم ليس بسبيل الانطباق على ظواهر الأمور وتأويل النصوص وحسب ، بل بسبيل حقائق الأمور ونيات القلوب أيضا . فإن كثيرا من الناس يحاولون إيجاد المخارج للتحلل من الحرام والآثام ويؤولون النصوص تأويلا منسقا مع أهوائهم أو تأويلا أوسع مما تتحمله النصوص . وقد يكونون ممن يعرفون الأمر على حقيقته في قرارة نفوسهم .

ولقد جاء في آية في سورة الأعراف شيء مماثل لما جاء في هذه الآية :

{ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق } [ 33 ] . غير أن للآية التي نحن في صددها معنى أوسع كما هو ملموح حيث يراد بها الذنوب والمعاصي والانحرافات التي لا توصف أو لا تعرف بالفواحش . ومن الفروق بين هذه الآية وآية الأعراف أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون آية الأعراف بأسلوب التحريم في جهة أن آية الأنعام جاءت بأسلوب الأمر والحض على ترك الإثم . ومن ذلك أن ما أمر بتركه في آية الأنعام ليس هو ما كان فاحشا لا يسع أحدا اقترافه بدون ترتيب واندفاع بالذنب ، بل ما يمكن أن يتأوله الناس ويجرأوا عليه في السر والعلن من أمور تكون في حقيقتها معصية غير خافية على مقترفها . وهكذا يمكن أن تكون الآية هنا تتمة للتعليم والتأديب والتشريع ليكون الأمر شاملا للفواحش والآثام الكبيرة وغير الكبيرة ما ظهر منها وما بطن ، والله تعالى أعلم .


[931]:انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن.
[932]:روى هذا الترمذي، انظر التاج جـ 4 ص 101.
[933]:انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي.
[934]:التاج جـ 3 ص 95.
[935]:التاج حـ 1 ص 63 و 64و 65.
[936]:المصدر نفسه.
[937]:التاج حـ 1 ص 63 و 64و 65.