يصدون : هنا بمعنى يمتنعون ويرفضون
{ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( 1 ) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 2 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ( 3 ) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 4 ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ( 5 ) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 6 ) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ( 7 ) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ( 8 ) }
{ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله }
وما فيها من صور وتلقين وما ورد في صددها من أخبار .
عبارة الآيات واضحة وقد تضمنت :
حكاية لما كان المنافقون يؤكدونه للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءوا إليه من إيمانهم برسالته .
وتكذيبا لهم وتقريرا بأنهم إنما يتخذون أيمانهم سترا ووقاء من الفضيحة والنكال وذريعة إلى الصد عن سبيل الله ، وبأنهم كفروا بعد إيمانهم فكان ذلك مظهرا سريرتهم وسوء نيتهم وانطباع قلوبهم على الكفر .
وصفا تنديديا لهم ، فهم رغم ما هم عليه من جسامة ووسامة تروقان للناظر إليهم ، وما يقولونه من أقوال تعجب السامع لها كالخشب المسندة فاقدون كل روح وعقل وقلب وإيمان .
حكاية لما كانوا يقابلون به الدعوة إلى المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للاعتذار والاستغفار ؛ حيث يلوون رؤوسهم ويرفضون استكبارا .
حكاية لأقوال صدرت منهم ؛ حيث كانوا يحرضون على عدم الإنفاق على أصحاب رسول الله ومساعدتهم حتى ينفضوا من حوله ، وحيث قالوا في سفرة من السفرات : إنهم إن رجعوا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وكانوا يعنون بالقول أنهم هم الأعز ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الأذل .
وردودا تنديدية عليهم فيها تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه المخلصين ، فسواء استغفر لهم النبي أم لم يستغفر فلن يغفر الله لهم ؛ لأنه لا يمكن أن يوفق الفاسقين أمثالهم ويرضى عنهم وهم حينما يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله غاب عنهم ، ولم يدركوا أن خزائن السماوات والأرض هي لله وهم حينما يقولون : ليخرجن الأعز منها الأذل غاب عنهم ، ولم يعلموا أن العزة إنما هي لله ورسوله والمؤمنين .
ودعاء عليهم : قاتلهم الله ، فكيف وأنى ينصرفون عن الحق والواضح الساطع
هتافا للنبي صلى الله عليه وسلم : فهم العدو وعليه الحذر منهم .
ولقد روى الشيخان والترمذي في سبب نزول الآيات حديثا عن زيد ابن أرقم قال ( كنت مع عمي فسمعت عبد الله ابن أبي ابن سلول يقول : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا . وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمي فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى عبد الله ابن أبي وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا ، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني فأصابني هم لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي فأنزل الله عز وجل { إذا جاءك المنافقون } إلى قوله { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله } إلى قوله { ليخرجن الأعز منها الأذل } فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها علي ، ثم قال : ( إن الله قد صدقك يا زيد }{[2230]} حيث يفيد هذا الحديث أن هذا الفصل نزل دفعة واحدة . وهو في الحق منسجم ومترابط . وعلى هذا فتكون الآيات الست الأولى بمثابة تمهيد للآيتين التاليتين لها اللتين فيهما حكاية أقوال المنافقين . وقد عرضنا الفصل كلا واحدا بسبب هذا الانسجام .
ولقد أورد المفسرون ورواة الحديث وكتاب السيرة القدماء في صدد نزول هذه الآيات وما فيها ، سياقا طويلا نرى من المفيد إيراده لما فيه من صور . فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رأس الحملة لغزو بني المصطلق الذين بلغه أنهم يتجمعون لغزو المدينة . وكان المنافقون مشتركين بالحملة بمقياس واسع ، وقد التقى المسلمون بالأعداء عند ماء اسمه المريسيع وانتصروا عليهم وسبوا وغنموا منهم . وقبيل أن يرتحلوا ويعودوا تلاحى شخص تابع لعمر ابن الخطاب ، وآخر تابع لبني عوف رهط ابن سلول على الماء فاقتتلا وصرخ تابع عمر : يا معشر المهاجرين وصرخ تابع بني عوف : يا معشر الأنصار وكاد الاشتباك يقع بين الحيين ثم تمكن النبي وكبار أصحابه من التهدئة . وأثار ذلك ابن سلول فقال في مجلس من قومه : لقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا يقصد المهاجرين والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله وصحبه ، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال :
هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام ، لم يركبوا رقابكم ولنحوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، وكان في المجلس فتى اسمه زيد ابن أرقم ، من الأنصار فقال له : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمان عز وجل ومودة من المسلمين فقال له : اسكت فإنما كنت ألعب ، فمشى زيد إلى رسول الله فأخبره الخبر وعنده عمر ابن الخطاب فقال له : دعني أضرب عنقه يا رسول الله ، فقال له : كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه : ثم آذن بالرحيل في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها ، فارتحل الناس وأرسل رسول الله إلى ابن سلول فلما جاءه قال له : أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال له : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب . فقال : من حضر من أصحابه : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام وهم في حديثه ، فعذر النبي ابن سلول وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذبوه . وكان له عم فقال له : ما أردت إلا أن كذبك رسول الله والناس كلهم يقولون : إن عبد الله وكبيرنا ولا يصدق عليه كلام غلام مفتون . فاستحيا الفتى وصار يبتعد عن رسول الله . وجاء أسيد ابن حضير أحد زعماء الأوس إلى النبي فقال له : رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال له : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال : وما قال ؟ قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل فقال أسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت . هو الذليل وأنت العزيز ثم قال : يا رسول الله أرفق به ، فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ، وإنه ليرى أنك استلبته ملكا . وبلغ عبد الله ابن عبد الله ابن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله فقال : يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي لما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه . فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتله يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا . وعاد النبي إلى المدينة وجلس زيد ابن أرقم في بيته لما به من الهم والحياء ، فأنزل الله سورة المنافقون في تصديق زيد وتكذيب عبد الله ابن أبي . فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد : وقال له : إن الله قد صدقك وأوفى بأذنك . وجاء قوم إلى عبد الله فقالوا له : قد نزل فيك آي شديد ، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي ، فأعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد . فأنزل الله { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم } ولما بلغوا المدينة منع عبد الله ابن أبي أباه من دخولها وقال له : والله لن تدخلها إلا بإذن رسول الله ، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل فجاء إلى رسول الله شاكيا ابنه ، فأرسل رسول الله إلى عبد الله ابن عبد الله أن خل عنه حتى يدخل{[2231]} .
ولسنا نرى في هذا السياق مهما كان طويلا ما لا يتسق إجمالا مع الواقع ومع روح الآيات وقد روته المصادر القديمة . ومنها ما رواه رواة عدول فسجل بعضه البخاري ومسلم والترمذي في مساندهم ، وكل ما يمكن أن يلحظ فيه ما جاء من أن آية { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم } قد نزلت بناء على رفض ابن سلول حينما نزلت الآيات الأخرى أن يذهب إلى رسول الله يستغفر له .
والمعقول أن يكون بعض الناس اقترحوا عليه قبل نزول الآيات أن يذهب إلى النبي معتذرا مستغفرا فأبى ، فحكت الآيات هذا الموقف فيما حكته واحتوت بالإضافة إلى ذلك استطرادا إلى تقرير واقع المنافقين جميعهم والتنديد بهم وإنذارهم والتحذير منهم ، وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه على النحو الذي شرحناه وبالأسلوب القوي الرائع الذي جاءت به .
ولقد كانت الأقوال الصادرة من زعيم المنافقين خطيرة جدا ، بل لعلها أشد ما صدر عن المنافقين خطورة وقحة وكيدا وصراحة على ملأ من الناس ؛ ولذلك كانت الحملة عليهم متناسبة في شدتها مع هذه الخطورة واقتضت حكمة التنزيل أن تفرد من أجل ذلك سورة خاصة .
ومن الممكن أن يلمح في الآيات أن المنافقين كانوا معتدين بأنفسهم وشاعرين بقوتهم نوعا ما برغم ما حكته عنهم من توكيد للنبي بإيمانهم برسالته . وهو ما كانوا يفعلونه في مختلف المناسبات والمواقف على ما مرت منه أمثلة عديدة وبخاصة في سورة النور السابقة لهذه السورة . ومثل هذا ملموح في الفصول التي احتوت سورة النور والنساء والأحزاب .
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية ، فإن جملة { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } التي جاءت مطلقة تظل مستمرة التلقين بما يوجده الإيمان في نفس المؤمن من القوة ، وتظل كذلك مستمرة فيض يستمد منه المسلمون شعور العزة ويحفزهم إلى إباء كل ضيم واعتبارهما متنافيين مع ما قرره لهم القرآن من عزة وكرامة واستعلاء .
هذا ، ولقد احتوت الآية ( 3 ) تعليلا صريحا لطبع قلوب المنافقين ، وهو كونهم كفروا بعد إيمانهم نتيجة لسوء نيتهم وخبث طويتهم . وهذا متسق مع ما جاء في المناسبات المماثلة بالنسبة للكفار والمتكبرين مثل { وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم } ( النساء : 155 ) و { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } ( الأعراف : 100 ) و { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } ( غافر : 35 ) بحيث يزول بذلك ما قد يتبادر من وهم بسبب ما جاء في بعض الآيات من إطلاق مثل { إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون 6 ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم } ( البقرة : 6 7 ) .
أما جملة { لن يغفر الله لهم } فإن من الأولى أن يلحظ تقرير كون ذلك إذا ماتوا وهم على كفرهم ونفاقهم ؛ لأن هناك آيات تذكر أن الله يقبل توبتهم إذا تابوا مثل آية سورة النساء هذه { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا 145 إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما 146 } وقد جاءت هاتان الآيتان عقب سلسلة فيها حملة شديدة على المنافقين ، وفيها جملة من الجملة المذكورة هنا كما ترى { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا 137 بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما 138 } والذي نرجحه أن كثيرا من المنافقين أخلصوا في إيمانهم بدليل أنهم كانوا عددا غير قليل وأقوياء في أوائل العهد المدني ، فأصبحوا عددا قليلا خائفين على ما ذكرته آيات في سورة التوبة .