اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ يَسۡتَغۡفِرۡ لَكُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوۡاْ رُءُوسَهُمۡ وَرَأَيۡتَهُمۡ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُونَ} (5)

قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } .

هذه المسألة عدها النحاة من الإعمال ، وذلك أن «تعالوا » يطلب «رسُولُ اللَّهِ » مجروراً ب «إلى » أي : تعالوا إلى رسول الله .

و «يَستَغْفِرْ » يطلبه فاعلاً ، فأعمل الثاني ، ولذلك رفعه ، وحذف من الأول ، إذ التقديرُ : تَعَالوا إليْهِ . ولو أعمل الأول لقيل : تعالوا إلى رسول الله يستغفر ، فيضمر في «يستغفر » فاعل .

ويمكن أن يقال : ليست هذه من الإعمالِ في شيء ؛ لأن قوله «تعالوا » أمر بالإقبال من حيث هو ، لا بالنظر إلى مقبل عليه{[56772]} .

قوله : { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } هذا جواب «إذا » .

وقرأ نافع : «لَوَوْا » مخففاً{[56773]} ، والباقون مشدداً على التكثير .

و «يَصُدُّونَ » حالٌ ؛ لأن الرؤية بصرية ، وكذا قوله : «وهُمْ يَسْتَكبرُونَ » حال أيضاً ، إما من أصحاب الحال الأولى ، وإما من فاعل «يصدون » فتكون متداخلة .

وأتي ب «يَصُدُّون » مضارعاً دلالة على التجدُّدِ والاستمرارِ{[56774]} .

وقرئ{[56775]} : «يَصِدُّونَ » بالكسر .

وقد تقدمتا في «الزخرف »{[56776]} .

فصل في نزول الآية{[56777]}

لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا : افتضحتم بالنفاقِ فتوبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق ، واطلبوا أن يستغفر لكم ، فلووا رءوسهم أي : حرَّكُوها استهزاء وإباء . قاله ابن عباس{[56778]} .

وعنه أنه كان لعبد الله موقف في كل سبب يحُضُّ على طاعة الله ، وطاعة رسوله ، فقيل له : وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليك غضبان ، فأته يستغفر لك فأبى ، وقال : لا أذهب إليه .

قال المفسِّرون : «وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال له : " المُريْسِيعُ " من ناحية " قُدَيد " إلى السَّاحل فازدهم أجير لعمر يقال له : " جهجاه بن سعيد الغفاري " يقود له فرسه بحليف لعبد الله بن أبيٍّ ، يقال له : " سِنَانُ بنُ وبرة الجهنِيُّ " حليفُ بني عوفٍ من الخزرج على ماء " بالمشلِّلط فصرخ جهجاه بالمهاجرين ، وصرخ سنان بالأنصار فلطم جهجاه سناناً وأعان عليه جهجاه فأعان جهجاه رجل من المهاجرين يقال له : حقالٌ ، وكان فقيراً ، فقال عبد الله بن أبي : أوقد فعلوها ؟ والله ما مثلنُا ومثلهُم إلاَّ كما قال الأولُ : " سَمِّنْ كلْبَكَ يأكلْكَ " أما - والله - لَئِنْ رَجَعْنَا إلى " المدينة " ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ثم قال لقومه : كفوا طعامكُم عن هذا الرجل ، لا تنفقوا على من عنده حتى ينفضّوا ويتركوه ، فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبد الله - أنت - والله - الذليلُ المنتقص في قومك ، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن ، ومودة من المسلمين ، والله لا أحبّك بعد كلامك هذا أبداً ، فقال عبد الله : اسكت إنما كنتُ ألعبُ ، فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، فأقسم بالله ما فعل ولا قال ، قال : فعذره النبي صلى الله عليه وسلم قال زيد بن أرقم : فوجدت في نفسي ولامني الناسُ ، فنزلت سورةُ المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله ، فقيل لعبد الله : قد نزلت فيك آياتٌ شديدة ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك ، فألوى رأسه » فنزلت الآيات . خرجه البخاري والترمذي بمعناه{[56779]} .

وقيل : معنى قوله : { يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ } يستتبكم من النِّفاق ، لأن التوبة استغفارٌ { ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } أي يعرضُون عن الرسول { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي متكبرون عن الإيمان{[56780]} .

قيل : قال ابن أبيّ لما لوى رأسه : أمرتموني أن أومن فقد آمنت ، وأن أعطي الزكاة من مالي فقد أعطيتُ ، فما بقي إلا أن أسجدَ لمحمدٍ .


[56772]:ينظر: الدر المصون 6/321.
[56773]:ينظر: السبعة 636، والحجة 6/292، وإعراب القراءات 2/368، وحجة القراءات 709، والعنوان 191، وشرح الطيبة 6/55، وشرح شعلة 603، وإتحاف 2/540.
[56774]:ينظر: الدر المصون 6/321.
[56775]:ينظر: المحرر الوجيز 5/314، والبحر المحيط 8/269، والدر المصون 6/321.
[56776]:آية(57).
[56777]:ينظر: القرطبي 18/83.
[56778]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/83).
[56779]:أخرجه البخاري (8/520) كتاب التفسير، باب قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل رقم (4907).
[56780]:ينظر: القرطبي 18/83.