التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ} (175)

( 1 ) انسلخ منها : هنا بمعنى انحرف عنها أو نبذها أو تخلى عنها أو كفر بها .

( 2 ) الغاوين : الضالين أو الهالكين .

175

تعليق على آية

{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) وتلقينها

وفي الآيات خبر شخص آتاه الله آياته ، فلم يقم بحقها قياما يرتفع شأنه بها عند الله ، بل انحط واتبع هواه واستغرق في الحياة الدنيا وشهواتها حتى صار كالكلب الذي لا يكل عن اللهث سواء أحملت عليه وزجرته أم لم تفعل . وقد احتوت الآيات بعد ذلك تنبيها إلى أن هذا المثل هو مثل القوم الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها ، وساء هذا مثلا لمثل هؤلاء الذين بتكذيبهم آيات الله إنما يظلمون أنفسهم ، وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بقص هذه القصة على الناس لعلهم يتفكرون ويعتبرون .

وقد أول المفسرون{[1006]} مثل الكلب بأن حالة الكافر أو المنسلخ كحالته لا يترك ضلاله وكفره سواء أوعظ وأنذر أو لم يوعظ وينذر . وهو وجيه سديد .

وقد روى المفسرون روايات في اسم الشخص الذي عنته الآيات{[1007]} فروي أنه أمية بن الصلت الشاعر الذي كان موحدا ، ويظن نفسه على ملة إبراهيم عليه السلام ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حسده على اختصاصه بالنبوة من دونه فجحد . وروي أنه أبو عامر الراهب المتنسك الذي كان على ملة إبراهيم عليه السلام فحسد النبي صلى الله عليه وسلم أيضا وتنصر وآلى على نفسه محاربته وكان يتآمر مع المنافقين عليه . وروى الطبري : أنه رجل من بني إسرائيل تآمر مع الجبابرة على قومه وحرضهم عليهم وهون لهم من شأنهم . كما روى : أنه نبي أو كاهن أو نبي من الكنعانيين أو المؤابيين اسمه بلعام بن باعوراء . وأن ملكه أمره بلعن بني إسرائيل حينما وفدوا على بلاده بعد خروجهم من مصر بقيادة موسى عليه السلام فأوحى الله إليه بمباركتهم بدلا من لعنهم . فلما ضايقه الملك أشار عليه بتسليط بنات البلاد على شباب بني إسرائيل ليورطنهم في الزنا بهم وعبادة معبودهم البعل . وأن رأيه هذا هو الانسلاخ من آيات الله الذي عنته الآية . وفي الإصحاح الثاني والعشرين وما بعده في سفر العدد من أسفار العهد القديم ذكرت قصة بلعام بن باعوراء وأمر الملك إياه بلعنة بني إسرائيل ومباركته إياهم بدلا من ذلك . كما ذكر فيها خبر ارتكاس شباب بني إسرائيل في الزنا بينات مؤاب وعبادة معبودهم البعل ولكن لم يذكر فيها أن هذا كان برأي بلعام .

وعلى كل حال ، فإن اكتفاء الآية بالإشارة إلى الشخص دون تفصيل قد يلهم أنه شخص معروف عند سامعي القرآن بعلمه واطلاعه على كتب الله ، وأنه انحرف عن طريق الحق والهدى بتأثير السجية الفاسدة ووسوسة الشيطان ومتاع الحياة الدنيا وشهواتها ، فاستحكم بذلك ما قصدته الآيات من العظة والتذكير والعبرة .

ويتبادر لنا أنها استهدفت بنوع خاص التنديد بأذكياء الكفار ونبهائهم الذين كان لهم من رجاحة العقل وسعة المعارف ما يجعلهم يدركون بيسر ما في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من صدق وسمو وروحانية وحق ، فأصروا مع ذلك عن قصد وهوى على مواقف العناد والمكابرة . ولعل فيها تعليلا لموقفهم من الدعوة وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين .

وهذه الطبقة كانت موجودة . وقد اهتدى منها من اهتدى من الرعيل الأول المؤمنين واستكبر الآخرون وكابروا . وقد احتوى القرآن إشارات عديدة إليهم وصفهم بأنهم اتخذوا هواهم آلهة لهم عن علم ونية كما جاء في آية سورة الجاثية هذه : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون22 } وآية سورة الفرقان هذه : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا43 } وقد كان فريق من هذه الطبقة يتمنون أن يبعث الله فيهم نذيرا منه ويقسمون على اتباعه والاهتداء بهديه ثم استكبروا ونكثوا استكبارا ومكر السيء كما جاء في آيات سورة فاطر هذه : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا42 استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا43 } وكان من هذه الطبقة من يتحدى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون له لو شئنا لقلنا مثل ما تقول كما جاء في آية سورة الأنفال هذه : { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين31 } .

ومن مقاصد المثل على ما هو المتبادر تقرير كون سلامة النية والقلب وصدق الرغبة في الاهتداء هو الجوهري ، ولا عبرة بالعلم والاطلاع إذا كانت النية خبيثة والسجية فاسدة والنفس دنيئة الرغبات والمطالب ، خاضعة للهوى والمآرب . وصاحب هذه الصفات لا يرتفع إذا ما أوتي العلم إلى المقام الرفيع الذي يجدر أن يرتفع إليه بعلمه ويظل ينحط ويرتكس دون أن ينفعه علم ولا عظة ولا عبرة .

وفي ما احتواه المثل من تنديد وتقريع لاذعين تلقين بليغ مستمر المدى من دون ريب . لأنه صورة قوية كثيرا ما تتكرر في المجتمعات ، سواء أفي التنديد بالطبقة التي تكون نيرة في عقولها وسعة معارفها ومنحطة في مطالبها وأهوائها وشهواتها ، أم في التحذير من الانخداع بأفرادها ، أم في تقبيح هذه الصفات المكروهة الضارة بالمجتمع .

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن حذيفة بن اليمان قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن ، حتى إذا رؤيت بهجته عليه ، وكان ردء الإسلام أعزه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك . قال حذيفة : قلت : يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي قال : بل الرامي ) وهذا الحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة وصحته محتملة وقد قال ابن كثير : إن إسناده جيد وإن الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما قد وثقوه . وفي هذه الكتب أحاديث من بابه منها حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي سعيد قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعملكم مع عملهم . يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم . يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ){[1008]} .

والحكمة الملموحة في الحديث تحذير المسلمين من الضالين المنحرفين عن علم . ويتساوق تلقينه مع تلقين الآيات .


[1006]:- انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والبغوي.
[1007]:- انظر المصدر نفسه.
[1008]:- التاج جـ1 ص 10.