الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ أُكُلُهَا دَآئِمٞ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْۚ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٱلنَّارُ} (35)

قوله تعالى : { مَّثَلُ الْجَنَّةِ } : مبتدأ ، وخبرُه محذوفٌ تقديره : فيما قَصَصْنا ، أو فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنَّة ، وعلى هذا فقولُه { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } تفسيرٌ لذلك المَثَل . وقال أبو البقاء : " فعلى هذا " تَجري " " حالٌ من العائدِ المحذوف في " وُعِد " ، أي : وُعِدَها مُقَدَّراً جَرَيَانُ أنهارها " . ونَقَل عن الفراء أنه جعل الخبر قوله " تجري " . قال : " وهذا خطأٌ عند البصريين " . قال : " لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأنهارُ ، وإنما هو من صفاتِ المضافِ إليه ، وشُبْهَتُه : انَّ المَثَل هنا بمعنى الصفة فهو كقولِه " صِفَةُ زيدٍ أنه طويلٌ " ، ويجوز أن يكونَ " تجري " مستانَفاً " .

قلت : وهذا الذي ذكره ابو البقاء نَقَل نحوَه الزمخشريُّ : ونَقَل غيرُه عن الفراء في الآية تأويلين آخرين ، أحدُهما : على حذف لفظةِ " أنَّها " والأصلُ : صفةُ الجنَّة أنها تجري ، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ ، وكيف يَحْذِفُ " أنها " من غير دليلٍ . والثاني : أنَّ لفظةَ " مثل " زائدةٌ ، والأصل : الجنة تجري مِنْ تحتِها الأنهار ، وزيادةُ " مَثَل " كثيرةٌ في لسانِهم . ومنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ } [ البقرة : 137 ] وقد تقدَّم .

وقال الزمخشري : " وقال غيرُه : -أي سيبويه - الخبر { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } كما تقول : صفةُ زيدٍ أسمرُ " . قال الشيخ : " وهذا أيضاً لا يَصِحُّ أن يكونَ " تَجْري " خبراً عن الصفةِ ، ولا " أسمر " خبراً عن الصفة ، وإنما يُتَأَوَّل " تجري " على إسقاطِ " أنْ " ورفعِ الفعل ، والتقدير : أَنْ تَجْري ، أي : جَرَيانُها .

وقال الزجَّاج : " مَثَل الجنَّة جَنَّةٌ تجري ، على حَذْفِ الموصوفِ تمثيلاً لِما غاب عنَّا بما نشاهده " . ورَدَّ عليه أبو عليٍّ قال : " لا يَصِحُّ ما قال الزجاج ، لا على معنى الصفة ، ولا على معنى الشَّبَه ؛ لأنَّ الجنَّةَ التي قَدَّرها جثةٌ ولا تكونُ الصفة ، ولأنَّ الشَّبه عبارةٌ عن المماثلةِ التي بين المتماثلين وهو حَدَثٌ ، والجنَّةُ جثَّةٌ فلا تكون المماثلةُ ، والجمهورُ على أن المَثَلَ هنا بمعنى الصفة فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ ، فهو كقولِه تعالى : { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } [ النحل : 60 ] وأنكر أبو علي أَنْ تكون بمعنى الصفة ، وقال : معناه الشبه .

وقرأ عليٌّ وابن مسعود " أمثال الجنة " ، أي : صفاتها .

و { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } كقوله " تَجْرِي " في الاستئناف التفسيري أو الخبرية أو الحالية . وقد تقدَّم خلافُ القرَّاءِ فيه في البقرة " .