الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ} (2)

قوله تعالى : { رُّبَمَا } { رُبَ } : فيها قولان ، أحدُهما : أنها حرفُ جرٍّ ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطَّراوة أنها اسم . ومعناها التقليلُ على المشهور . وقيل : تفيد التكثير . وقيل : تفيد التكثير في مواضعِ الافتخار كقوله :

فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ *** بآنسةٍ كأنها خطُّ تِمْثالِ

وقد أُجيب عن ذلك : بأنها لتقليل النظير . ودلائلُ هذه الأقوال في النحو . وفيها لغاتٌ كثيرةٌ أشهرها : " رُبَ " بالضم والتشديد ، أو التخفيف ، وبالثانية قرأ نافع وعاصم . و " رَبَ " بالفتح مع/ التشديد والتخفيف ، ورُبْ ورَبْ بالضم والفتح مع السكون فيهما . وتتصل تاءُ التأنيث بكلِّ ذلك ، وبالتاء قرأ طلحةُ بن مصرف وزيدُ بن علي : رُبَّتَما . وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإِسكانُ والفتح كثُمَّت ولات ، فتكثر الألفاظ ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ منها : لزومُ تصديرِها ، ومنها تنكيرُ مجرورِها وقوله :

رُبَّما الجامِلِ المُؤَبَّلِ فيهمُ *** وعَنَاجيجُ بينهنَّ المهَارى

ضرورةٌ في رواية مَنْ جَرًّ " الجامِل " . وتَجُرُّ ضميراً لازمَ التفسير بنكرةٍ بعده ، يُستغنى بتثنيِتها وجمعِها وتانيثِها عن تثنية الضمير وجمعِه وتأنيثِه كقولِه "

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ورُبَّه عَطِباً أَنْقَذْتُ مِنْ عَطَبِهْ

والمطابقةُ نحو : " رُبَّهما رجلين " نادرةٌ . وقد يُعطف على مجرورِها ما أُضيف إلى ضميرِه نحو : " رُبَّ رجلٍ وأخيه " . وها يلزم وَصْفُ مجرورِها ، ومُضِيُّ ما يتعلَّق به ؟ خلاف ، والصحيحُ عدمُ ذلك . فمِنْ مجيئه غيرَ موصوفٍ قولُ هندٍ :

يا رُبَّ قائلةٍ غداً *** يا لهفَ أمِّ مُعاويهْ

ومن مجيء المستقبلِ قولُه :

فإنْ أَهْلَِكْ فربَّ فتىً سيبكيْ *** عليَّ مهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ

وقولُها : " يا رُبَّ قائلةٍ غداً " البيت ، وقول سليم :

ومعتصمٍ بالحيِّ من خشية الرَّدى *** سيُرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُوب

فإنَّ حرف التنفيس و " غداً " خَلَّصاه للاستقبالِ .

و " ما " في " رُبما " تحتمل وجهين ، أظهرُهما : أنها المهيِّئَةُ ، بمعنى : أن " رُبَّ " مختصةٌ بالأسماء ، فلمَّا جاءت " ما " هَيَّأت دخولَها على الأفعال . وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في " إنَّ " وأخواتها ، وتَكُفُّها أيضاً عن العمل كقولِه :

رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في روايةِ مَنْ رَفَعه ، كما جَرَى ذلك في كاف التشبيه . والثاني : أنَّ " ما " نكرةٌ موصوفةٌ بالجملةِ الواقعة بعدها ، والعائدُ على " ما " محذوفٌ ، تقديره : رُبَّ شيءٍ يَوَدُّه الذين كفروا .

وقوله : { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } مَنْ لم يلتزمْ مُضِيَّ متعلِّقِها لم يَحْتَجْ إلى تأويلٍ ، ومَنْ التَزَم ذلك قال : لأن المُتَرَقَّب في أخبار الله تعالى واقعٌ لا محالةَ ، فعبَّر عنه بالماضي تحقيقاً لوقوعِه ، كقوله : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ }

[ النحل : 1 ] ونحوِه .

قوله : { لَوْ كَانُواْ } يجوز في " لو " أن تكونَ الامتناعيةَ ، وحينئذٍ يكون جوابُها محذوفاً . تقديره : لو كانوا مسلمين لسُرُّوا بذلك ، أو لَخَلصوا ممَّا هم فيه . ومفعولُ " يَوَدُّ " محذوفٌ على هذا التقديرِ : أي : رُبَّما يودُّ الذين كفروا النجاةَ ، دَلَّ عليه الجملةُ الامتناعية .

والثاني : أنها مصدرية عند مَنْ يرى ذلك كما تقدَّم تقريرُه في البقرة . وحينئذٍ يكون هذا المصدرُ هو المفعولَ للوَدادة ، أي : يَوَدُّون كونَهم مسلمين ، إنْ جعلنا " ما " كافةً ، وإنْ جعلناها نكرةً كانت " لو " وما في حَيِّزِها بدلاً مِنْ " ما " .