الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مُهۡطِعِينَ مُقۡنِعِي رُءُوسِهِمۡ لَا يَرۡتَدُّ إِلَيۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَآءٞ} (43)

قوله تعالى : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } : حالان من المضافِ المحذوفِ ؛ إذ التقديرُ : أصحاب الأبصار ، إذ يُقال : شَخَصَ زيدٌ بصرَه ، أو تكون الأبصارُ دلَّتْ على أربابِها فجاءت الحالُ مِن المدلولِ عليه ، قالهما أبو البقاء . وقيل : " مُهْطِعين " منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، اي : يُبْصِرُهم مُهْطِعين . ويجوز في " مُقْنِعي " أن يكونَ حالاً من الضمير في " مُهْطِعين " فتكون حالاً متداخلةً . وإضافة " مُقْنعي " غيرُ حقيقيةٍ فلذلك وَقَعَتْ حالاً .

والإِهطاع : قيل : الإِسراعُ في المشي قال :

إذا دعانا فأَهْطَعْنا لدَعْوَته *** داعٍ سميعٌ فَلَفُّونا وساقُوْنا

وقال :

وبمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأن عِنَانَه *** في [ رأس ] جَذْعٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال أبو عبيدة : " قد يكون الإِسراعَ وإدامةَ النظر " . وقال الراغب : " هَطَع الرجلُ ببصره إذا صَوَّبه ، وبعيرٌ مُهْطِعٌ إذا صَوَّب عُنُقَه " . وقال الأخفش : " هو الإِقبالُ على الإِصغاء " وأنشد :

بِدِجْلَةَ دارُهُمْ ولقد أراهُمْ *** بِدِجْلِةَ مُهْطِعِيْن إلى السَّماعِ

والمعنى : مُقْبِلِيْن برؤوسهم إلى سَماع الدَّاعي . وقالَ ثعلب : " أَهْطِع الرجلُ إذا نظر بِذُلٍّ وخُشُوعِ ، لا يُقْلِعُ ببصره " ، وهذا موافِقٌ لقول أبي عبيدٍ فقد سُمِعَ فيه : أَهْطَعَ وهَطَعَ رباعياً وثلاثياً .

والإِقناع : رَفْعُ الرأسِ وإدامةُ النظر من غيرِ التفاتٍ إل غيرِه ، قاله القتبيُّ وابنُ عرفة ، ومنه قولُه يَصِفُ إبلاً ترعى أعالي الشجر فترفع رؤوسها :

يُباكِرْن العِضَاهَ بمُقْنَعاتٍ *** نواجِذُهُنَّ كالِحَدأ الوَقيع

ويقال : أَقْنَعَ رأسَه ، أي : طَأْطَأها ونَكَّسها فهو من الأضداد ، والقَناعَةُ : الاجتِزاءُ باليسير ، ومعنى قَنِع بكذا : ارتفع رأسُه عن السؤال ، وفَمٌ مُقَنَّع : مَعْطُوفُ الأسنان داخله ورجلٌ مُقَنَّعٌ بالتشديد . ويقال : قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً وقَنَعاً إذا رَضِيَ ، وقَنَعَ قُنُوعاً إذا سَأَل ، فوقع الفرقُ بالمصدر .

وقال الراغب : " قال بعضُهم : " أصلُ هذه الكلمةِ مِن القِناع ، وهو ما يُغَطَّي الرأسَ ، والقانِعُ مَنْ [ لا ] يُلحُّ في السؤال فَيَرْضَى بما يأتيه كقوله :

لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْني *** مَفاقِرَه أعفُّ مِنَ القُنُوعِ

ورجل مَقْنَعٌ يُقْنِعُ به . قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** شُهودِيْ على لَيْلَى عُدُولٌ مَقانِعُ

والرُّؤوس : جمع رَأْس وهو مؤنثٌ ، ويُجْمَع في القلة على أَرْؤُس ، وفي الكثرةِ على رُؤوس ، والأَرْأَسُ : العظيم الرأسِ ، ويُعَبَّر بها عن الرجل العظيم كالوجهِ ، والرئيس مشتق مِنْ ذلك ، ورِئاسُ السيفِ مَقْبَضُهُ ، وشاةٌ رَأْساء اسْوَدَّت رأسُها .

قوله : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ } في محلِّ نصب على الحال أيضاً من الضمير في " مُقْنِعِي " . ويجوز أن يكونَ بدلاً من " مُقْنِعي " كذا قال أبو البقاء ، يعني أنه يَحُلُّ مَحَلَّه . ويجوز أن يكونَ استئنافاً .

والطَّرْفُ في الأصل مصدرٌ ، وأُطْلِقَ على الفاعلِ لقولِهم : " ما فيهم عَيْنٌ تَطْرِفُ " ، [ ولعلَّه ] هنا العينُ . قال :

وأَغُضُّ طَرْفي ما بَدَتْ لي جارَتي *** حتى يُواري جارَتي مَأْواها

والطَّرْفُ : الجَفْنُ أيضاً ، يقال : ما طَبَّق طَرْفَه - أي : جَفْنَه - على الآخر ، والطَّرْفُ أيضاً تحريكُ الجَفْن .

قوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } يجوز أن يكونَ استئنافاً ، وأن يكون حالاً ، والعاملُ فيه : إمَّا " يَرْتَدُّ " ، وإمَّا ما قبله من العوامل . وأفرد " هواء " وإن كان خبراً عن جمعٍ لأنه في معنى : فارغة متخرِّقة ، ولو لم يقصِدْ ذلك لقال : " أَهْوِيَة " ليُطابِقَ الخبرُ مبتدأه .

والهواءُ : الخالي من الأجسام ، ويُعَبَّر به عن الجبن ، يقال : جَوْفُه هواءٌ ، أي : فارغ ، قال زهير :

كأن ارَّحْلَ منها فوق صَعْلٍ *** من الظَّلْمَانِ جُؤْجُؤُه هَواءُ

وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وأنت مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هواءُ

النَّخِب : الذي أَخَذْتَ نُخْبَته ، أي : خِيارَه .