الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

قوله : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } : يجوزُ في رَفْعِها وجهان . أحدهما : أن يكونَ مبتدأً . والجملةُ بعدَها صفةٌ لها ، وذلك هو المُسَوِّغ للابتداءِ بالنكرةِ . وفي الخبرِ وجهان ، أحدُهما : أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } وإلى هذا نحا ابنُ عطية ، فإنه قال : " ويجوز أن يكونَ مبتدأً . والخبرُ { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } وما بَعد ذلك . والمعنى : السورةٌ المُنَزَّلَةُ المَفْرُوْضَةُ كذا وكذا ؛ إذ السورةُ عبارةٌ عن آياتٍ مسرودةٍ لها بَدْءٌ وخَتْم " . والثاني : أنَّ الخبرَ محذوفٌ أي : فيما يُتْلَى عليكم سورةٌ ، أو فيما أَنْزَلْنا سورةٌ .

والوجهُ الثانِ مِنَ الوجَهين الأَوَلَيْن : أَنْ يكونَ خبرُ المبتدأ مضمراً أي : هذه سورةٌ . وقال أبو البقاء : " سورةٌ بالرفع على تقديرِ : هذه سورةٌ ، أو مِمَّا يُتْلى عليك سورةٌ فلا تكونُ " سورةٌ " مبتدأَةً لأنها نكرةٌ " . وهذه عبارةٌ مُشكلة على ظاهِرها . كيف يقول : لا تكونُ مبتدأً مع تقديرِه : فيما يُتْلى عليك سورةٌ ؟ وكيف يُعَلِّلُ المنعَ بأنها نكرةٌ مع تقديرِه لخبرِها جارَّاً مُقَدَّماً عليها ، وهو مُسَوِّغٌ للابتداء بالنكرة .

وقرأه العامَّةُ بالرفعِ على ما تقدَّم . وقرأ الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهدٌ وأبو حيوة في آخرين " سورةً " بالنصبِ . وفيها أوجهٌ ، أحدها : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ غير مفسَّرٍ بما بعدَه . تقديره : اتْلُ سورةً أو اقرأ سورةً . والثاني : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده . والمسألةُ من الاشتغال . تقديرُه : أَنْزَلْنا سورةً أنزلناها . والفرقُ بين الوجهين : أنَّ الجملةَ بعد " سورةً " في محلِّ نصبٍ على الأول ، ولا محلَّ لها على الثاني . الثالث : أنها منصوبةٌ على الإِغراء ، أي : دونَكَ سورةً . قال الزمخشري ، ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا يجوزُ حَذْفُ أداة الإِغْراءِ ، واستشكل الشيخُ أيضاً على وجهِ الاشتغالِ جوازَ الابتداءِ بالنكرةِ من غيرِ مُسَوِّغٍ . ومعنى ذلك : أنه ما مِنْ مَوْضع يجوز [ فيه ] النصبُ على الاشتغالُ إلاَّ ويجوز أن يُرْفَعَ على الابتداءِ ، وهنا لو رُفِعَتْ " سورة " بالابتداءِ لم يَجُزْ ؛ إذ لا مُسَوِّغٍ . فلا يُقال : رجلاً ضربتُه لامتناعهِ : رجلٌ ضربتُه . ثم أجاب : بأنه إنْ اعتُقد حَذْفُ وصفٍ جاز ، أي : سورة مُعَظَّمة أو مُوَضَّحة أَنْزَلْناها ، فيجوزُ ذلك .

الرابع : أنَّها منصوبةٌ على الحال مِنْ " ها " في " أَنْزِلْناها " . والحالُ من المُكْنَى يجوز أن تتقدَم عليه . قاله الفراء . وعلى هذا فالضميرُ في " أَنْزَلْناها " ليس عائداً على سورة بل على الأحكام . كأنه قيل : أَنْزلنا الأحكامَ سورةً مِنْ سُوَرِ القرِآن ، فهذه الأحكامُ ثابتةٌ بالقرآنِ ، بخلافِ غيرِها فإنَّه قد ثَبَتَتْ بالسُّنة .

قوله : { وَفَرَضْنَاهَا } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديدِ . والباقون بالتخفيف . فالتشديد : إمَّا للمبالغةِ في الإِيجاب وتوكيداً ، وإمَّا لتكثير المفروض عليهم ، وإمَّا لتكثيرِ الشيءِ المفروض . والتخفيفُ بمعنى : أَوْجَبْناها وجعلناها مقطوعاً بها .