الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (6)

قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } : في رفع " أنفسهم " وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ مِنْ " شهداء " ، ولم يذكر الزمخشري في غضونِ كلامِه غيرَه . والثاني : أنه نعتٌ له ، على أنَّ " إلاَّ " بمعنى " غير " . قال أبو البقاء : " ولو قُرىء بالنصبِ لجاز على أن يكونَ خبرَ كان ، أو منصوباً على الاستثناء . وإنما كان الرفعُ هنا أقوى ؛ لأنَّ " إلاَّ " هنا صفةٌ للنكرةِ كما ذَكْرنا في سورة الأنبياء " . قلت : وعلى قراءةِ الرفعِ يُحتمل أَنْ تكونَ " كان " ناقصةً ، وخبرُها الجارُّ ، وأَنْ تكونَ تامةً أي : ولم يُوجَدْ لهم شهداءُ .

وقرأ العامَّةُ " يكن " بالياءِ من تحتُ ، وهو الفصيحُ ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ لِما بعدَ " إلاَّ " على سبيلِ التفريغ وَجَبَ عند بعضِهم التذكيرُ في الفعل نحو : " ما قام إلاَّ هندٌ " ولا يجوز : ما قامَتْ ، إلاَّ في ضرورة كقوله :

3433 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجَراشعُ

أو في شذوذٍ كقراءةِ الحسنِ : " لا تُرَى إلاَّ مَساكنُهم " وقرىء " ولم تَكُنْ " بالتاءِ من فوقُ وقد عَرَفْتَ ما فيه .

قوله : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ مبتدأ ، وخبرُه مقدرُ التقديمِ أي : فعليهم شهادة ، أو مُؤَخَّرهُ أي : فشهادة أحدِهم كافيةٌ أو واجبةٌ . الثاني : أن يكون خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : فالجوابُ شهادةُ أحدِهم . الثالث : أن يكونَ فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي : فيكفي . والمصدرُ هنا مضافٌ للفاعلِ .

وقرأ العامَّةُ " أربعَ شهاداتٍ " بالنصبِ على المصدر . والعاملُ فيه " شهادة " فالناصبُ للمصدرِ مصدرٌ مثلُه ، كما تقدَّم في قولِه { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] . وقرأ الأخَوان وحفصٌ برفع " أربع " على أنها خبرُ المبتدأ ، وهو قوله : " فشهادة " .

ويتخرَّجُ على القراءاتين تعلُّقُ الجارِّ في قوله : " بالله " ، فعلى قراءةِ النصبِ يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقَ بشهادات ؛ لأنه أقربُ إليه . والثاني : أنه متعلِّقٌ بقوله : " فشهادةُ " أي : فشهادةُ أحدِهم بالله . ولا يَضُرُّ الفصلُ ب " أربع " لأنها معلومةٌ للمصدرِ فليسَتْ أجنبيةً . والثالث : أن المسألةَ من باب التنازعِ ؛ فإنَّ كلاً مِنْ شهادة وشهادات تَطْلُبه من حيث المَعنى ، وتكون المسألةُ من إعْمال الثاني للحَذْفِ من الأول ، وهو مختار البصريين . وعلى قراءةِ الرفعِ يتعيَّن تَعَلُّقُه بشهادات ؛ إذ لو عَلَّقْتَه بشهادة لَزِمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالجرِّ ، ولا يجوزُ لأنه أجنبيٌّ . ولم يُختلفْ في " أربع " الثانية وهي قولُه " أَنْ تَشْهد أ ربعَ شهاداتٍ أنها منصوبةٌ للتصريح بالعاملِ فيها . وهو الفعلُ .