الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } : في هذا الاستثناءِ خلافٌ : هل يعودُ لِما تقدَّمه من الجملِ أم إلى الجملة الأخيرة فقط ؟ وتكلم عليها من النحاةِ ابنُ مالك والمهاباذي . فاختار ابنُ مالك عَوْدَه إلى الجملةِ المتقدمةِ ، والمهاباذي إلى الأخيرة . وقال الزمخشري : " ردُّ شهادةِ القاذفِ مُعَلَّقٌ عند أبي حنيفة رحمه الله باستيفاءِ الحدِّ . فإذا شهد [ به ] قبل الحَدَّ أو قبلَ تمام استيفائِه قُبِلَتْ شهادتُه . فإذا اسْتُوفي لم تُقْبَلْ شهادتُه أبداً ، وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء . وعند الشافعيِّ رحمه الله يتعلَّقُ رَدُّ شهادِته بنفسِ القَذْفِ . فإذا تاب عن القَذْفِ بأَنْ يرجعَ عنه عاد مقبولَ الشهادة . وكلاهما متمسِّكٌ بالآية : فأبو حنيفةَ رحمه الله جَعَلَ جزاءَ الشرطِ الذي هو الرميُ الجَلْدَ ورَدَّ الشهادةِ عقيبَ الجَلْدِ على التأبيد ، وكانوا مردودي الشهادة عندَه في أَبَدِهم وهومدةُ حياتِهم ، وجعل قولَه { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } كلاماً مستأنفاً غيرَ داخلٍ في حَيِّزِ جزاءِ الشرط ، كأنه حكايةُ حالِ الرامين عند الله بعد انقضاءِ الجملةِ الشرطيةِ ، و { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } استثناءٌ من " الفاسقين " . ويَدُلُّ عليه قولُه : { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . والشافعيُّ رحمه الله جَعَل جزاءَ الشرطِ الجملتين أيضاً ، غيرَ أنه صَرَفَ الأبدَ إلى مدةِ كونهِ قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة [ والرجوع ] عن القذف ، وجعل الاستثناء بالجملةِ الثانية متعلقاً " . انتهى ، وإنما ذكرتُ الحكمَ ؛ لأنَّ الإِعرابَ متوقفٌ عليه .

ومَحَلُّ المستثنى فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء . الثاني : أنه مجرورٌ بدلاً من الضمير في " لهم " وقد أوضح الزمخشري ذلك بقولِه " وحَقُّ المستثنى عنده أي الشافعي أن يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ " هم " في " لهم " ، وحقُّه عند أبي حنيفة أن يكونَ منصوباً ؛ لأنه عن مُوْجَبٍ . والذي يقتضيه ظاهرُ الآيةِ ونظمُها أن تكونَ الجملُ الثلاثُ بمجموعِهِنَّ جزاءَ الشرط كأنه قيل : ومَنْ قَذَفَ المُحْصناتِ فاجْلِدوهم ، ورُدُّوا شهادتَهم وفَسِّقوهم أي : فاجْمَعُوا لهم الجَلْدَ والردَّ والتفسيقَ ، إلاَّ الذين تابوا عن القَذْفِ وأصلحوا فإنَّ اللهَ يغفرُ لهم فينقلبون غيرَ مجلودِين ولا مَرْدودين ولا مُفَسَّقين " . قال الشيخ : " وليس ظاهرُ الآية يقتضي عَوْدَ الاستثناءِ إلى الجملِ الثلاثِ ، بل الظاهرُ/ هو ما يَعْضُده كلامُ العرب وهو الرجوعُ إلى الجملةِ التي تَليها " .

والوجه الثالث : أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ من قولِه { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . واعتُرِض بخُلُوِّها مِنْ رابطٍ . وأُجيب بأنه محذوفٌ أي : غفورٌ لهم ، واختلفوا أيضاً في هذا الاستثناءِ : هل هو متصلٌ أو منقطع ؟ والثاني ضعيفٌ جداً .