الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا} (155)

قوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } : في " ما " هذه وجهان ، أحدهما : أنها زائدةٌ بين الجار ومجروره تأكيداً ، والثاني : أنها نكرة تامة ، و " نقضِهم " بدلٌ منه ، وهذا كما تقدَّم في { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ } [ آل عمران : 159 ] . و " نقض " مصدرٌ مضاف لفاعله ، و " ميثاقهم " مفعوله ، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ ل " ما " هذه وجهان ، أحدهما : أنه " حَرَّمنا " المتأخر في قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا } [ النساء : 160 ] وعلى هذا فيقال : " فبظلمٍ " متعلق ب " حَرَّمنا " أيضاً فيلزم أن يتعلق حرفا جر متحدان لفظاً ومعنى بعامل واحد ، وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل . وأجابوا عنه بأن قولَه " فبظلمٍٍ " بدل من قوله " فبما " بإعادة العامل . فيقال : لو كان بدلاً لما دخلت عليه فاء العطف ؛ لأن البدل تابع بنفسِه من غير توسُّط حرف عطف . وأُجيب عنه بأنه لَمَّا طال الكلام بين البدل والمبدل منه أعادَ الفاء للطول ، ذكر ذلك ابو البقاء والزجاج والزمخشري وأبو بكر وغيرهم .

وقد رَدَّه الشيخ بما معناه أن ذلك لايجوز لطول الفصل بين المبدل والبدل ، وبأنَّ المعطوفَ على السبب سببٌ فيلزمُ تأخُّرُ بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم ، فلا يمكن أن يكون سبباً أو جزءَ سببٍ إلا بتأويل بعيد ، [ وذلك أن قولهم : " إنَّا قتلنا المسيحَ " وقولهم على مريم ] البهتانَ إنما كان بعد تحريم الطيبات . قال : " فالأَوْلى أن يكونَ التقدير : لعنَّاهم . وقد جاء مصرَّحاً به في قولِه : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } .

والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، فقَّدره ابنُ عطية لعنَّاهم وأَذْلَلْناهم وختمنا على قلوبهم . قال : " وحَذْفُ جوابِ مثلِ هذا الكلام بليغٌ " وتسميةُ مثل هذا " جواب " غيرُ معروف لغةً وصناعة . وقَدَّره أبو البقاء : " فبما نقضهم ميثاقهم طُبع على قلوبهم ، أو لُعِنوا . وقيل : تقديرُه : فبما نقضِهم لا يؤمنون ، والفاء زائدةٌ " انتهى . [ وهذا الذي أجازه أبو البقاء تعرض له الزمخشري وردَّه فقال : " فإنْ قالت : فهلاَّ زَعَمْتَ أنًَّ المحذوف الذي تعلَّقَتْ به الباء ] ما دل عليه قولُه " بل طَبَع اللَّهُ ، فيكون التقديرُ : فبما نقضِهم طَبَع اللَّهُ على قلوبهم ، بل طَبَع الله عليها بكفرهم ردُّ وإنكارٌ لقولهم : " قلوبُنا " غُلْفٌ " فكانَ متعلقاً به " قال الشيخ : " وهو جوابٌ حسنٌ ، ويمتنع من وجهٍ آخرَ وهو أنَّ العطفَ ب " بل " للإِضرابِ ، والإِضرابُ إبطالٌ أو انتقالٌ ، وفي كتابِ الله في الإِخبار لا يكون إلا للانتقال ، ويُسْتفاد من الجملةِ الثانية ما لايُسْتفاد من الأولى ، والذي قَدَّره الزمخشري لا يَسُوغ فيه الذي قررناه ، لأنَّ قولَه : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ } هو مدلولُ الجملة التي صَحِبتها " بل " فأفادَتِ الثانية ما أفادت الأولى ، ولو قلت : " مَرَّ زيد بعمرو ، بل مَرَّ زيد بعمرو " لم يَجُزْ " وقَدَّره الزمخشري " فَعَلْنا بهم ما فعلنا " .

قوله : { بَلْ طَبَعَ } هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدم أي : ليس الأمرُ كما قالوا مِنْ قولهم : " قلوبُنا غلف " وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بل في " طبع " إلا الكسائي فأدغم من غير خلاف ، وعن حمزة خلاف . والباء في بكفرهم " يُحتمل أن تكون للسببية ، وأن تكون للآلة كالباء في " طبعت " بالطين على الكيس " يعني أنه جعل الكفر كالشيء المطبوع به أي مُغَطِّياً عليها ، فيكونُ كالطابع . وقوله : " إلا قليلاً " يحتمل النصبَ على نعت مصدر محذوف أي : إلا إيماناً قليلاً : ويحتمل كونَه نعتاً لزمان محذوف أي : زماناً قليلاً ، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوباً على الاستثناءِ من فاعل " يؤمنون " أي : قليلاً منهم فإنهم يؤمنون ، لأنَّ الضمير في " لا يؤمنون " عائدٌ على المطبوع على قلوبهم ، ومن طَبَع على قلبه بالكفر فلا يقع منه الإِيمان .