الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا} (164)

قوله تعالى : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ } : الجمهور على نصب " رسلاً " وفيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على الاشتغال لوجود شروطه ، أي : وقصصنا رسلاً ، والمعنى على حَذْف مضاف أي : قصصنا أخبارهم ، فيكون " قد قصصناهم " لا محلَّ له لأنه مفسرٌ لذلك العاملِ المضمر ، ويُقَوِّي هذا الوجهَ قراءةُ أُبي : " ورسل " بالرفعِ في الموضعينِ ، والنصبُ هنا أرجحُ من الرفع ؛ لأن العطف على جملةٍ فعلية وهي : " وآتينا داودَ زبوراً " الثاني : أنه منصوب عطفاً على معنى " أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح " أي : أَرْسَلْنا وَنبَّأْنا نوحاً ورسلاً ، وعلى هذا فيكون " قد قَصَصْناهم " في محل نصب لأنه صفةٌ ل " رسلاً " الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار فعل اي : وأرسلنا رسلاً ، وذلك أنَّ الآية نزلت رادَّة على اليهود في إنكارهم إرسالَ الرسل وإنزال الوحي ، كما حكى اللَّهُ عنهم في قوله :

{ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } [ الأنعام : 91 ] والجملةُ أيضاً في محل الصفة .

وقرأ أُبي : " ورسلٌ " بالرفع في الموضعين ، وفيه تخريجان ، أظهرُهما : أنه مبتدأ وما بعده خبرُه ، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لأحدِ شيئين : إمَّا العطفِ كقولِه :

عندي اصطبارٌ وشكوى عند قاتلتي *** فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا

وإما التفصيلِ كقوله :

فأقبلتُ زحفاً على الركبتينِ *** فثوبٌ لَبِسْتٌ وثوبٌ أَجُرّْ

وكقوله :

إذا ما بكى مِنْ خلفِها انصرفَتْ له *** بشقٍ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ

والثاني : - وإليه ذهب ابن عطية - أنه ارتفعَ على خبر ابتداء مضمر أي : وهم رسلٌ ، وهذا غير واضح . والجملة بعد " رسل " على هذا الوجه تكون في محلِّ رفع لوقوعها صفةً للنكرة قبلها .

قوله : { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ } / كالأول . وقوله : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى } الجمهور على رفع الجلالة ، وهي واضحة . و " تكليماً " مصدر مؤكد رافعٌ للمجاز ، وهي مسألةٌ يبحث فيها الأصوليون ، تحتمل كلاماً كثيراً ليس هذا موضعَه ، على أنه قد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز كقول هند بنت النعمان بن بشير في زوجِها روحِ بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان :

بكى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنكَر جِلْدَه *** وعَجَّتْ عجيجاً مِنْ جُذامَ المطارِفُ

تقول : إنَّ زوجها رَوْحاً قد بكى ثيابُ الخَزِ من لُبْسه ، لأنه ليس من أهل الخز ، وكذلك صرخت صراخاً من جُذام - وهي قبيلة رَوْح- ثيابُ المطارف ، تعني أنهم ليسوا من أهل تلك الثياب ، فقولها : " عَجَّت المطارف " مجازٌ لأن الثياب لا تعجُّ ، ثم رَشَّحَتْه بقولها عجيجاً . وقال ثعلب : " لولا التأكيدُ بالمصدر لجاز ان يكونَ كما تقول : " كَلَّمْتُ لك فلاناً " أي : أرسلت إليه ، أو كتبت له رُقْعةً . وقرأ يحيى بن وثاب والنخعي : " وكَلَّم اللَّهَ موسى " بنصب الجلالة ، وهي واضحةٌ أيضاً .