الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

قوله : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } : هذان مفعولا الاتخاذ . والعدوُّ لَمَّا كان بزنةِ المصادِر وقعَ على الواحدِ فما فوقَه ، وأضاف العدوَّ لنفسه تعالى تغليظاً في جُرْمِهم .

قوله : { تُلْقُونَ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه تفسيرٌ لموالاتِهم إياهم . الثاني : أنه استئنافُ إخبارٍ بذلك فلا يكون للجلمة على هذين الوجهَين محلٌّ من الإِعراب . الثالث : أنها حالٌ مِنْ فاعل " تَتَّخِذوا " أي : لا تتخذوا مُلْقِين المودةَ . الرابع : أنها صفة ل " أولياءَ " . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : إذا جَعَلْتَه صفةً لأولياء ، وقد جَرَى على غير مَنْ هوله ، فأين الضميرُ البارزُ ، وهو قولُك : تُلْقُون إليهم أنتم بالمودة ؟ قلت : ذاك إنما اشترطوه في الأسماءِ دونَ الأفعالِ لو قيل : أولياءَ مُلْقِين إليهم بالمودَّة على الوصف لَما كان بُدٌّ مِن الضميرِ البارزِ " قلت : قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً ، وفيها كلامٌ لمكي وغيرِه . إلاَّ أن الشيخَ اعترضَ على كونِها صفةً أو حالاً بأنهم نُهُوا عن اتخاذِهم أولياءً مطلقاً في قولِه : { لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة :51 ] والتقييدُ بالحالِ والوصفِ يُوهم جوازَ اتِّخاذهم أولياءَ إذا انتفى الحالُ أو الوصفُ . ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه معلومٌ من القواعدِ الشرعيةِ فلا مفهومَ لهما البتةَ . وقال الفراء : " تُلْقون من صلةِ أولياء " وهذا على أصولِهم مِنْ أنَّ النكرةَ تُوْصَلُ كغيرها من الموصولات .

قوله : { بِالْمَوَدَّةِ } في الباء ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن الباءَ مزيدةٌ في المفعولِ به كقولِه : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] . والثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ والمفعولُ محذوفٌ ، ويكون معنى الباءِ السببَ . كأنه قيل : تُلْقُوْن إليهم أسرارَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأخبارَه بسبب المودةِ التي بينكم . / والثالث : أنها متعلقةٌ بالمصدرِ الدالِّ عليه " تُلْقُون " أي : إلقاؤُهم بالمودَّةِ ، نقله الحوفيُّ عن البصريين ، وجَعَلَ القولَ بزيادةِ الباءِ قولَ الكوفيين . إلاَّ أن هذا الذي نَقَله عن البصريين لا يُوافقُ أصولَهم ؛ إذ يَلْزَمُ منه حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله ، وهو لا يجوزُ عندَهم . وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ الجملةِ برأسِها ، فإنَّ " إلقاءَهم " مبتدأ و " بالمودة " متعلقٌ به ، والخبرُ أيضاً محذوفٌ . وهذا إجحافٌ .

قوله : { وَقَدْ كَفَرُواْ } فيه أوجهٌ : الاستئناف ، والحالُ مِنْ فاعِل " تتَّخذوا " والحالُ مِنْ فاعلِ " تُلْقُون " أي : لا تتولَّوْهم ولا توادُّوهم وهذه حالُهم . والعامَّةُ " بما " بالباء ، والجحدري وعاصمٌ في روايةٍ " لِما " باللام أي : لأجلِ ما جاءكم ، فعلى هذا الشيءِ المكفورِ غيرُ مذكور ، تقديره : كفروا باللَّهِ ورسولِه .

قوله : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ تفسيراً لكُفْرِهم ، فلا مَحَلَّ له على هذَيْن ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل " كفروا " .

قوله : { وَإِيَّاكُمْ } عطفٌ على الرسول . وقُدِّم عليهم تَشريفاً له .

وقد استَدَلَّ به مَن يُجَوِّزُ انفصالَ الضميرِ مع القدرةِ على اتصالِه ، إذ كان يجوز أَنْ يُقال : يُخْرجونكم والرسولَ ، فيجوز : " يُخْرجون إياكم والرَّسولَ " في غيرِ القرآنِ وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّ حالةَ تقديمِ الرسولِ دلالةٌ على شَرَفِه . لا نُسَلِّمُ أنه يُقَدَرُ على اتِّصاله . وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه الآيةِ عند قولِه تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } في سورةِ النساء فعليك باعتباره .

قوله : { أَن تُؤْمِنُواْ } مفعولٌ له . وناصبُه : " يُخْرِجون " أي : يُخْرجونكم لإِيمانِكم أو كراهةَ إيمانِكم .

قوله : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } جوابُه محذوفٌ عند الجمهور لتقدُّمِ " لا تتَّخذوا " ، ومقدم وهو " لا تتخذوا " عند الكوفيين ومَنْ تابعهم . وقد تقدَّم تحريرُه . وقال الزمخشري : و { إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلِّقٌ ب " لا تَتَّخذوا " . يعين : لا تتولَّوْا أعدائي إنْ كنتم أوليائي . وقولُ النحويين في مثلِه : هو شرطٌ ، جوابُه محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليه " انتهى . يريد أنَّه متعلِّقٌ به من حيث المعنى . وأمَّا من حيث الإِعراب فكما قال جمهورُ النَّحْويين .

قوله : " جِهَاداً وَابْتِغَآءَ " يجوزُ أَنْ يُنْصَبا على المفعول له أي : خَرَجْتُمْ لأجلِ هذَيْن ، أو على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : تُجاهِدون ، وتبتَغُون ، أو على أنهما في موضع الحال .

قوله : { تُسِرُّونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيرَه ، وأن يكونَ حالاً ثانية مِنْ ما انتصب عنه " تُلْقُون " حالاً ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " تُلْقُون " ، قاله ابن عطية . ويُشْبه أَنْ يكونَ بدلَ اشتمالٍ لأنَّ إلقاءَ المودةِ يكون سرّاً وجَهْراً ، فَأَبْدَل منه هذا للبيانِ بأيِّ نوعٍ وقع الإِلقاء ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : أنتم تُسِرُّون ، قاله ابن عطية ، ولا يَخْرجُ عن معنى الاستئناف . وقال أبو البقاء : " هو توكيدٌ ل " تُلْقُون " بتكريرِ معناه " وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ الإِلقاءَ أعمُّ مِنْ أَنْ يكونَ سِرَّاً أو جَهْراً .

وقوله : { بِالْمَوَدَّةِ } الكلامُ في الباء هنا كالكلامِ عليها بعد " تُلْقُون " .

قوله : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ } هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل " تُسِرُّون " أي : وأيُّ طائلٍ لكم في إسْراركم وقد عَلِمتم أن الإِسرارَ والإِعلان سيَّانِ في علمي ؟ و " أعلمُ " يجوز أن يكونَ أفعلَ تفضيل وهو الظاهرُ ، وأَنْ يكون فعلاً مضارعاً . قال ابن عطية : " وعُدِّي بالباء لأنك تقول : علمتُ بكذا " .

قوله : { وَمَن يَفْعَلْهُ } في الضمير وجهان ، أظهرهما : أنه يعود على الإِسرار ؛ لأنه أقربُ مذكورٍ . والثاني : أنه يعودُ على الاتخاذ ، قاله ابنُ عطية .

قوله : { سَوَآءَ السَّبِيلِ } يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الظَّرْفِ إنْ قلنا : " ضَلَّ " قاصرٌ ، وأَنْ يكونَ مفعولاً به إنْ قلنا : هو متعدٍّ .