الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (12)

قوله تعالى : { أَلاَّ تَسْجُدَ } : في " لا " هذه وجهان ، أظهرهما : أنها زائدة للتوكيد . قال الزمخشري : " لا " في " أن لا تسجد " صلةٌ بدليل قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] ومثلُها :

{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } [ الحديد : 29 ] بمعنى ليعلم . ثم قال : " فإن قلت : ما فائدةُ زيادتها ؟ قلت : توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه ، كأنه قيل : ليتحقَّق علمُ أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السجود وتُلْزمَه نفسك إذ أمرتك ؟ وأنشدوا على زيادة " لا " قولَ الشاعر :

أبى جودُه لا البخلَِ واستعجلَتْ نَعَمْ *** به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائلُه

يروى " البخل " بالنصب والجر ، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها ، تقديرُه : أبى جودُه البخلَ . وأمَّا في روايةِ الجر فالظاهرُ منها عدمُ الدلالة على زيادتها . ولا حجةَ في هذا البيتِ على زيادة " لا " في رواية النصب ، ويتخرَّجُ على وجهين أحدهما : أن تكون " لا " مفعولاً بها و " البخل " بدل منها لأنَّ " لا " تُقال في المنع فهي مؤدِّية للبخل . والثاني : أنها مفعول بها أيضاً ، والبخل مفعول من أجله والمعنى : أبى جودُه لفظ " لا " لأجل البخل أي كراهة البخل ، ويؤيد عدمَ الزيادة روايةُ الجر . قال أبو عمرو بن العلاء : " الرواية فيه بخفض " البخل " لأن " لا " تُسْتعمل في البخل " ، وأنشدوا أيضاً على زيادتها قول الآخر :

أَفَعَنْكَ لا برقٌ كأنَّ وميضَه *** غابٌ تَسَنَّمَه ضِرامٌ مُثْقَبُ

يريد : أفعنك برقٌ . وقد خَرَّجه الشيخ على احتمال كونِها عاطفةً وحَذْفِ المعطوف ، والتقدير : أفعنك لا عن غيرك . وكونُ " لا " في الآية زائدةً هو مذهب الكسائي والفراء وأبي إسحاق . وما ذكرته من كون " البخل " بدلاً من " لا " و " لا " مفعولٌ بها هو مذهب الزجاج . وحكى بعضهم عن يونس قال : " كان أبو عمرو بن العلاء يجرُّ " البخل " ويجعل " لا " مضافة إليه ، أراد أبى جوده لا التي هي للبخل لأن " لا " قد تكون للبخل وللجود ، فالتي للبخل معروفة ، والتي للجود أنه لو قال له : " امنع الحق " أو " لا تعط المساكين " فقال : " لا " كان جوداً . قلت : يعني فتكون الإِضافة للتبيين ، لأن " لا " صارت مشتركةً فميَّزها بالإِضافة وخصَّصها به . / وقد تقدم طرف جيد من زيادة " لا " في أواخر الفاتحة وأقوال الناس في ذلك .

وقد زعم جماعةٌ أن " لا " في هذه الآية الكريمة غيرُ زائدة ، لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك فقال بعضهم : في الكلام حَذْفٌ يصحُّ به النفي ، والتقدير : ما منعك فأحوجك أن لا تسجد ؟ وقال بعضهم : المعنى على ما ألجأك أن لا تسجد ؟ وبعضهم : مَنْ أمَرَكَ أن لا تسجد ؟ ومَنْ قال لك أن لا تسجد ، أو ما دَعاك أن لا تسجد ؟ وهذا تمحُّل مَنْ يتحرَّج مِنْ نسبة الزيادة إلى القرآن وقد تقدَّم تحقيقه ، وأنَّ معنى الزيادة على معنىً يفهمه أهلُ العلم وإلا فكيف يُدَّعى زيادةٌ في القرآن بالعُرْف العام ؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين .

و " ما " استفهاميةٌ في محل رفع بالابتداء ، والخبرُ بعدها أي : أيُّ شيء منعك . و " أَنْ " في محل نصبٍ أو جر لأنها على حَذْفِ حرف الجر إذ التقدير : ما منعك من السجود ؟ و " إذ " منصوب بتسجد أي : ما منعك من السجود في وقت أمري إياك به . وقوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } لا محلَّ لهذه الجملةِ لأنها كالتفسير والبيان للخبرية .