الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلۡنَا لَكُمۡ فِيهَا مَعَٰيِشَۗ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (10)

قوله تعالى : { وجَعَلْنا لكم } : يجوز أن تكون بمعنى " خلق " فتتعدَّى لواحد فيتعلَّق الجارَّان بالجَعْل ، أو بمحذوفٍ على أنهما حالان مِنْ " معايش " لأنهما لو تأخرا لجاز أن يكونا وصفين . ويجوز أن تكونَ التصييرية فتتعدَّى لاثنين أولهما " معايش " ، والثاني أحد الجارَّين ، والآخر : إمَّا حال فيتعلق بمحذوف ، وإمَّا متعلق بنفس الجعل/ وهو الظاهر .

ومعايش جمع معيشة وفيها ثلاثة مذاهب ، مذهب سيبويه والخليل : أن وزنها مَفْعُلة بضم العين أو مَفْعِلة بكسرها ، فعلى الأول جُعِلت الضمةُ كسرةً ونُقِلَتْ إلى فاء الكلمة . وقياس قول الأخفش في هذا النحو أن يُغَيَّر الحرفُ لا الحركةُ ، فمعيشة عنده شاذة إذ كان ينبغي أن يُقال فيها مَعُوشة . وأما على قولنا إن أصلها مَعْيِشة بكسر العين فلا شذوذَ فيها . ومذهب الفراء أنَّ وزنها مَفْعَلة بفتح العين وليس بشيء . والمعيشة اسمٌ لما يُعاشُ به أي يُحْيا ، وهي في الأصل مصدرٌ لعاش يعيش عَيْشاً وعِيْشة قال تعالى : { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] ومعاشاً : قال تعالى :

{ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً } ومَعِيشاً قال رؤبة :

إليك أشكو شِدَّةَ المعيشِ *** وجُهْدَ أعوامٍ نَتَفْنَ ريشي

والعامَّةُ على " معايش " بصريح الياء . وقد خرج خارجة فروى عن نافع " معائش " بالهمز . وقال النحويون : هذه غلطٌ ؛ لأنه لا يُهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المد زائداً نحو : صحائف ومدائن ، وأما " معايش " فالياءُ أصلٌ لأنها من العَيْش . قال الفارسي عن أبي عثمان : " أصلُ أَخْذِ هذه القراءةِ عن نافع " . قال : " ولم يكن يدري ما العربية ؟ " . قلت : قد فَعَلَتْ العربُ مثل هذا ، فهمزوا منائر ومصائب جمع منارة ومصيبة ، والأصل : مناوِر ومصاوب . وقد غلَّط سيبويه مَنْ قال مصائب ، ويعني بذلك أنه غلط بالنسبة إلى مخالفة الجادَّة ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال : " واعلم أنَّ بعضَهم يغلطُ فيقول : " إنهم أجمعون ذاهبون " قال : " ومنهم مَنْ يأتي بها على الأصل فيقول : مصاوب ومناور ، وهذا كما قالوا في جمع مقال ومقام : مَقَاوِم ومَقاوِل في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال : وأنشد النحويون على ذلك :

وإنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لم يكن *** جريرٌ ولا مَوْلَى جريرٍ يقومُها

ووجهُ همزِها أنهم شبَّهوا الأصليَّ فتوهَّموا أن معيشة بزنة صحيفة فهمزوها كما همزوا تِيْك . قالوا : ونظير ذلك في تشبيههم الأصلي بالزائد قولهم في جمع مَسِيل : مِسْلان توهَّموه على أنه على زنة قضيب وقِضبان وقالوا في جمعه أَمْسِلة كأنهم توهَّموا أنه بزنة رغيف وأرغفة ، وإنما مسيل وزنه مَفْعِل لأنه من سَيَلان الماء . وأنشدوا على مَسيل وأَمْسِلة قولَ أبي ذؤيب الهذلي :

بِوادٍ لا أنيسَ به يَبابٍ *** وأَمْسِلةٍ مَذانِبُها خَلِيفُ

وقال الزجاج : " جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ ، ولا أعلم لها وجهاً إلا التشبيهَ بصحيفة وصحائف ، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة " .

قلت : وهذه القراءة لم ينفرد بها نافع بل قرأها جماعة جِلَّةٌ معه ، فإنها منقولةٌ عن ابن عامر الذي قرأ على جماعة من الصحابة كعثمان وأبي الدرداء ومعاوية ، وقد سبق ذلك في الأنعام ، وقد قرأ بها قبل ظهور اللحن وهو عربي صريح . وقرأ بها أيضاً زيد بن علي وهو على جانب من الفصاحةِ والعلمِ الذي لا يدانيه إلا القليلُ . وقرأ بها أيضاً الأعمشُ والأعرجُ وكفى بهما في الإِتقان والضبط . وقد نقل الفراء أن قَلْبَ هذه الياء تشبيهاً لها بياء صحيفة قد جاء وإنْ كان قليلاً .

وقوله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } كقوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] .