الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَبَيۡنَهُمَا حِجَابٞۚ وَعَلَى ٱلۡأَعۡرَافِ رِجَالٞ يَعۡرِفُونَ كُلَّۢا بِسِيمَىٰهُمۡۚ وَنَادَوۡاْ أَصۡحَٰبَ ٱلۡجَنَّةِ أَن سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡۚ لَمۡ يَدۡخُلُوهَا وَهُمۡ يَطۡمَعُونَ} (46)

قوله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا } : أي : بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وهذا هو الظاهر لقوله { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } . وقيل : بين الجنة والنار ، وبه بدأ الزمخشري . وقوله : { وَعَلَى الأَعْرَافِ } قال الزمخشري : " أي : وعلى أعراف الحجاب " كأنه جعل أل عوضاً من الإِضافة وهو مذهب كوفي ، وقد تقدم تحقيقه . وجعل بعضُهم نفس الأعراف هي نفس الحجاب المتقدِّمِ ذكرُه ، عبَّر عنه تارة بالحجاب وتارة بالأعراف . قال الواحدي : ولم يذكر غيره " ولذلك عُرِّفَت الأعراف لأنه عَنَى بها الحجاب " .

والأعراف جمع عُرْف بضم العين ، وهو كل مُرْتَفَع من أرض وغيرها استعارةً مِنْ عُرْف الديك وعُرْف الفَرَس ، كأنه عُرِف بارتفاعه دونَ الأشياءِ المنخفضة فإنها مجهولة غالباً ، قال أمية بن أبي الصلت :

وآخرون على الأعراف قد طَمِعوا *** في جنة حَفَّها الرمَّانُ والخَضِرُ

ومثله أيضاً قوله :

كلُّ كِنازِ لَحْمِه نيافِ *** كالجبلِ المُوْفِي على الأعرافِ

وقال آخر وهو الشماخ :

فظلَّتْ بأعرافٍ تَعادَى كأنها *** رِماحٌ نَحاها وِجْهةَ الريحِ راكزٌ

وقوله : { يَعْرِفُونَ } في محل رفع نعتاً لرجال . و " كُلاَّ " أي : كل فريق من أصحاب الجنة وأصحاب النار . وقوله { أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } كقوله

{ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ الأعراف : 44 ] إلا أنه لم يُقْرأ هنا إلا بأنْ الخفيفة فقط .

قوله : { وَنَادَوْاْ } هذا الضميرُ وما بعده لرجال . وقوله { لَمْ يَدْخُلُوهَا } في هذه الجملة أوجه ، أحدها : أنها حال من فاعل " نادوا " أي : نادى أهل الأعراف حالَ كونهم غير داخلين الجنة . وقوله " وهم يطمعون " يحتمل أن يكون حالاً مِنْ فاعل " يَدْخلُوها " ثم لك اعتباران بعد ذلك ، الأول : أن يكون المعنى : لم يدخلوها طامعين في دخولها بل/ دخلوها على يأس مِنْ دخولها . والثاني : أن المعنى : لم يدخلوها حال كونهم طامعين أي : لم يدخلوا بعد ، وهم في وقت عدم الدخول طامعون ، ويحتمل أن يكون مستأنَفَاً أخبر عنهم بأنهم طامعون في الدخول .

الوجه الثاني : أن يكون حالاً من مفعول " نادوا " أي : نادَوهم حالَ كونهم غيرَ داخلين . وقوله : " وهم يَطْمَعون " على ما تقدم آنفاً . والوجه الثالث أن تكون في محلِّ رفعٍ صفةً لرجال قاله الزمخشري . وفيه ضعفٌ من حيث إنه فَصَل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله : " ونادَوا " وليست جملةَ اعتراض . والوجه الرابع : أنها لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها جوابُ سائلٍ سأل عن أصحاب الأعراف فقال : ما صُنِعَ بهم ؟ فقيل : لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها .

وقال مكي كلاماً عجيباً وهو أن قال : " إنْ حَمَلْتَ المعنى على أنهم دخلوها كان " وهم يطمعون " ابتداء وخبراً في موضع الحال من المضمر المرفوع في " يدخلوها " ، معناه : أنهم يئسوا من الدخول فلم يكن لهم طمعٌ في الدخول ، لكن دخلوا وهم على بأس من ذلك ، فإنْ حَمَلْتَ معناه أنهم لم يدخلوا بعدُ ولكنهم يطمعون في الدخولِ برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً " .

وقال بعضُهم : " جملةُ قوله " لم يدخلوها " من كلام أصحاب الجنة ، وجملةُ قوله وهم يطمعون " من كلام الملائكة " قال عطاء عن ابن عباس : " إن أصحابَ الأعراف ينادُون أصحابَ الجنة بالسلام ، فيردُّون عليهم السلام ، فيقول أصحاب الجنة للخزنة : ما لأصحابنا على أعراف الجنة لم يدخلوها ؟ فيقول لهم الملائكة جواباً لهم وهم يطمعون " ، وهذا يَبْعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن .

والطمع هنا يحتمل أن يكونَ على بابه ، وأن يكونَ بمعنى اليقين . قالوا : لقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم على نبيِّنا وعليه أفضلُ الصلاة والسلام :

{ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ } [ الشعراء : 82 ] وقال :

وإني لأطمعُ أنَّ الإِله *** قديرٌ بحسْنِ يَقيني يَقيني