قوله : { لَتَرْكَبُنَّ } : هذا جوابُ القسم . وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد ، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع . وتقدَّم تصريفُ مثلِه . فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها : إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله :
{ يأَيُّهَا الإِنسَانُ } [ الانشقاق : 6 ] ، وإمَّا خطابُ غيرِه . وقيل : هو خطابٌ للرسول ، أي : لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم . وقيل : التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء ، أي : لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال : تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان ، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ . وهذا قولُ ابنِ مسعود . والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ .
وقرأ عمر " لَيَرْكَبُنَّ " بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار . وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء ، أي : لَيركبَنَّ الإِنسانُ . وقيل : ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدار . وقرأ عبد الله وابن عباس " لَتِرْكَبنَّ " بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة . وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس ، أي : لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ .
قوله : { طَبَقاً } مفعولٌ به ، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه . والطَّبَقُ : قال الزمخشري : " ما طابَقَ غيرَه . يُقال : ما هذا بطَبَقٍ لذا ، أي : لا يطابقُه . ومنه قيل للغِطاء : الطَّبَقُ . وأطباق الثرى : ما تَطابَقَ منه ، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها : طَبَقٌ . ومنه قولُه تعالى : { طَبَقاً عَن طَبقٍ } ، أي : حالاً بعد حال ، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ . ويجوز أنْ يكونَ جمعَ " طبقة " وهي المرتبةُ ، مِنْ قولهم : هم على طبقاتٍ ، ومنه " طبَقات الظهر " لفِقارِه ، الواحدةُ طبَقَة ، على معنى : لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة ، بعضُها أرفعُ من بعض ، وهي الموتُ وما بعده من مواطنِ القيامة " انتهى . وقيل : المعنى : لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ . ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام :
وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْ *** أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ
تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ *** إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ
يريد : بدا عالَمٌ آخرُ : فعلى هذا التفسير يكون " طبقاً " حالاً لا مفعولاً به . كأنه قيل : متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة . وأمَّا قولُ الأقرعِ :
إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه *** وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ
فيحتملُ الأمرين ، أي : ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى ، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين ، ويكون نصبُ " طَبَقاً " على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف ، أو الحال ، أي : منتقلاً . والطَّبَقُ أيضاً : ما طابقَ الشيءَ ، أي : ساواه ، ومنه دَلالةُ المطابقةِ . وقال امرؤ القيس :
دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ *** طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ
قوله : { عَن طَبقٍ } في " عن " وجهان ، أحدُهما : أنها على بابها ، والثاني : أنها بمعنى " بَعْدَ " .
وفي محلِّها وجهان ، أحدهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال " تَرْكَبُنَّ " . والثاني : أنَّها صفةٌ ل " طَبقا " . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما محلُّ " عن طبَق " ؟ قلت : النصبُ على أنُّه صفةٌ ل " طبقا " ، أي : طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو حالٌ من الضمير في " لتركبُنَّ " ، أي : لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة " .
وقال أبو البقاء : " وعن بمعنى بَعْدَ . والصحيح أنها على بابِها ، وهي صفةٌ ، أي : طبقاً حاصلاً عن طَبق ، أي : حالاً عن حال . وقيل : جيلاً عن جيل " انتهى . يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به ؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ ؟ كما تقدَّم نَقْلُه ، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ " طَبَقاً " مفعولاً به بل حالاً ، كما تقدَّم ، لكنه لم يَذْكُرْ في " طبقاً " غيرَ المفعولِ به . وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى ، إذ يصير التقديرُ : لتركَبُنَّ أمةً بعد أمَّةٍ ، فتكون الأمةُ مركوبةً لهم ، وإن كان يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ ، أي : لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.