الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَتَرۡكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٖ} (19)

قوله : { لَتَرْكَبُنَّ } : هذا جوابُ القسم . وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد ، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع . وتقدَّم تصريفُ مثلِه . فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها : إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله :

{ يأَيُّهَا الإِنسَانُ } [ الانشقاق : 6 ] ، وإمَّا خطابُ غيرِه . وقيل : هو خطابٌ للرسول ، أي : لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم . وقيل : التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء ، أي : لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال : تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان ، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ . وهذا قولُ ابنِ مسعود . والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ .

وقرأ عمر " لَيَرْكَبُنَّ " بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار . وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء ، أي : لَيركبَنَّ الإِنسانُ . وقيل : ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدار . وقرأ عبد الله وابن عباس " لَتِرْكَبنَّ " بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة . وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس ، أي : لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ .

قوله : { طَبَقاً } مفعولٌ به ، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه . والطَّبَقُ : قال الزمخشري : " ما طابَقَ غيرَه . يُقال : ما هذا بطَبَقٍ لذا ، أي : لا يطابقُه . ومنه قيل للغِطاء : الطَّبَقُ . وأطباق الثرى : ما تَطابَقَ منه ، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها : طَبَقٌ . ومنه قولُه تعالى : { طَبَقاً عَن طَبقٍ } ، أي : حالاً بعد حال ، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ . ويجوز أنْ يكونَ جمعَ " طبقة " وهي المرتبةُ ، مِنْ قولهم : هم على طبقاتٍ ، ومنه " طبَقات الظهر " لفِقارِه ، الواحدةُ طبَقَة ، على معنى : لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة ، بعضُها أرفعُ من بعض ، وهي الموتُ وما بعده من مواطنِ القيامة " انتهى . وقيل : المعنى : لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ . ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام :

وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْ *** أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ

تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ *** إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ

يريد : بدا عالَمٌ آخرُ : فعلى هذا التفسير يكون " طبقاً " حالاً لا مفعولاً به . كأنه قيل : متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة . وأمَّا قولُ الأقرعِ :

إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه *** وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ

فيحتملُ الأمرين ، أي : ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى ، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين ، ويكون نصبُ " طَبَقاً " على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف ، أو الحال ، أي : منتقلاً . والطَّبَقُ أيضاً : ما طابقَ الشيءَ ، أي : ساواه ، ومنه دَلالةُ المطابقةِ . وقال امرؤ القيس :

دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ *** طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ

قوله : { عَن طَبقٍ } في " عن " وجهان ، أحدُهما : أنها على بابها ، والثاني : أنها بمعنى " بَعْدَ " .

وفي محلِّها وجهان ، أحدهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال " تَرْكَبُنَّ " . والثاني : أنَّها صفةٌ ل " طَبقا " . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما محلُّ " عن طبَق " ؟ قلت : النصبُ على أنُّه صفةٌ ل " طبقا " ، أي : طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو حالٌ من الضمير في " لتركبُنَّ " ، أي : لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة " .

وقال أبو البقاء : " وعن بمعنى بَعْدَ . والصحيح أنها على بابِها ، وهي صفةٌ ، أي : طبقاً حاصلاً عن طَبق ، أي : حالاً عن حال . وقيل : جيلاً عن جيل " انتهى . يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به ؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ ؟ كما تقدَّم نَقْلُه ، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ " طَبَقاً " مفعولاً به بل حالاً ، كما تقدَّم ، لكنه لم يَذْكُرْ في " طبقاً " غيرَ المفعولِ به . وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى ، إذ يصير التقديرُ : لتركَبُنَّ أمةً بعد أمَّةٍ ، فتكون الأمةُ مركوبةً لهم ، وإن كان يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ ، أي : لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ .