البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَٱرۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (96)

روي عن ابن عباس أنّ البشير كان يهوذا ، لأنه كان جاء بقميص الدم .

وقال أبو الفضل الجوهري : قال يهوذا لإخوته : قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص القرحة ، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه ، وقال هذا المعنى : السدي .

وأن تطرد زيادتها بعد لما ، والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير ، وهو الظاهر ، هو لقوله : فألقوه .

وقيل : يعود على يعقوب ، والظاهر أنه أريد الوجه كله كما جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئاً يعتقد فيه البركة مسح به وجهه .

وقيل : عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه .

وقيل : عبر بالكل عن البعض .

وارتدَّ عدّه بعضهم في أخوات كان ، والصحيح أنها ليست من أخواتها ، فانتصب بصيراً على الحال والمعني : أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر .

ففي الكلام ما يشعر أنّ بصره عاد أقوى مما كان عليه وأحسن ، لأنّ فعيلاً من صيغ المبالغة ، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى انتهى .

وليس كذلك لأنّ فعيلاً هنا ليس للمبالغة ، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا المعنى .

وأما بصيراً هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء ، فهو جار على قياسٍ فعل نحو ظرف فهو ظريف ، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضاً ، لأنّ فعيلاً بمعنى ليس للمبالغة نحو : أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع .

وروي أن يعقوب سأل البشير كيف يوسف ؟ قال : ملك مصر .

قال : ما أصنع بالملك ؟ قال : على أي دين تركته ؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة .

وقال الحسن : لم يجد البشير عند يعقوب شيئاً يبيته به وقال : ما خبرنا شيئاً منذ سبع ليال ، ولكن هون الله عليك سكرات الموت .

وقال الضحاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، والقوة بعد الضعف ، والشباب بعد الهرم ، والسرور بعد الكرب .

والظاهر أن قوله : إني أعلم ، محكي بالقول ويريد به إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون .

فقيل : ما لا تعلمون من حياة يوسف ، وأن الله يجمع بيننا وبينه .

وقيل : من صحة رؤيا يوسف عليه السلام ، وقيل : من بلوى الأنبياء بالحزن ، ونزول الفرج ، وقيل : من إخبار ملك الموت إياي ، وكان أخبره أنه لم يقبض روحه .

وقال ابن عطية : ما لا تعلمون هو انتظاره لتأويل الرؤيا ، ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله فقط .

وقال الزمخشري : ألم أقل لكم يعني قوله : إني لأجد ريح يوسف ، أو قوله : ولا تيأسوا من روح الله .

وقوله إني أعلم ، كلام مبتدأ لم يقع عليه القول انتهى .

وهو خلاف الظاهر الذي قدمناه .

ولما رجع إليه بصره وقرت عينه بالمسير إلى ابنه يوسف ،