البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لِي وَلَا تَكۡفُرُونِ} (152)

{ فاذكروني أذكركم } : أي اذكروني بالطاعة ، أذكركم بالثواب والمغفرة ، قاله ابن جبير ، أو بالدعاء والتسبيح ونحوه ، قاله الربيع والسدي .

وقال عكرمة : يقول الله يا ابن آدم أذكرني بعد صلاة الصبح ساعة ، وبعد صلاة العصر ساعة ، وأنا أكفيك ما بينهما ، أو اثنوا عليّ ، أثن عليكم .

وقد جاء هذا المعنى في الحديث الطويل في قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر » .

وفيه : ما يقول عبادي ؟ قالوا : « يسبحونك ويحمدونك ويمجدونك " .

وقيل : هو على حذف مضاف ، أي اذكروا نعمتي أذكركم بالزيادة .

وقد جاء التصريح بالنعمة في قوله : { اذكروا نعمتي } .

وقيل : الذكر باللسان وبالقلب عند الأوامر والنواهي .

وقيل : اذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي .

وقيل : بما فرضت عليكم ، أو ندبتكم إليه ، أذكركم ، أي أجازكم على ذلك .

وقد تقدم معنى هذا ، وهو قول سعيد ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب .

وقيل : فاذكروني في الرخاء بالطاعة والدعاء ، أذكركم في البلاء بالعطية والنعماء ، قاله ابن بحر .

وقيل : اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال ، أو اذكروني بالتوبة أذكركم بالعفو عن الحوبة ، أو اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، أو اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، أو اذكروني بمحامدي أذكركم بهدايتي ، أو اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص ، أو اذكروني بالموافقات أذكركم بالكرامات ، أو اذكروني بترك كل حظ أذكركم بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم ، أو اذكروني بقطع العلائق أذكركم بنعت الحقائق ، أو اذكروني لمن لقيتموه أذكركم لكل من خاطبته ، قال : ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، أو اذكروني أذكركم ، أحبوني أحبكم ، أو اذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل ، أو اذكروني بقلوبكم أذكركم بتحقيق مطلوبكم ، أو اذكروني على الباب من حيث الخدمة أذكركم على بساط القرب بإكمال النعمة ، أو اذكروني بتصفية السر أذكركم بتوفية البر ، أو اذكروني في حال سروركم أذكركم في قبوركم ، أو اذكروني وأنتم بوصف السلامة أذكركم يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة ، أو اذكروني بالرهبة أذكركم بالرغبة .

وقال القشيري : فاذكروني أذكركم ، الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور ، ثم استهلاكه في وجود المذكور حتى لا يبقى منه إلا أثر يذكر ، فيقال : قد كان فلان .

قال تعالى : { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } وإنما الدنيا حديث حسن فكن حديثاً حسناً لمن وعى ، قال الشاعر :

إنما الدنيا محاسنها*** طيب ما يبقى من الخبر

وفي المنتخب ما ملخصه : الذكر يكون باللسان ، وهو : الحمد ، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتب الله ؛ وبالقلب ، وهو : الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف ، والأحكام ، والأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والفكر في الصفات الإلهية ، والفكر في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم التقديس ، فإذا نظر العبد إليها ، انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال ، وبالجوارح ، بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها ، خالية عن الأعمال المنهي عنها .

وعلى هذا الوجه ، سمى الله الصلاة ذكراً بقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله } انتهى .

وقالوا : الذكر هو تنبيه القلب للمذكور والتيقظ له ، وأطلق على اللسان لدلالته على ذلك .

ولما كثر إطلاقه عليه ، صار هو السابق إلى الفهم .

فالذكر باللسان سريّ وجهريّ ، والذكر بالقلب دائم ومتحلل ، وبهما أيضاً دائم ومتحلل .

فباللسان ذكر عامّة المؤمنين ، وهو أدنى مراتب الذكر ، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذكراً » خرج ابن ماجة " أن أعرابياً قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ ، فأنبئني منها بشيء أتشبث به ، قال : «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله " وخرج أيضاً قال : " يقول الله تعالى أنا مع عبدي إذ هو ذكرني وتحركت بي شفتاه " .

وسئل أبو عثمان ، فقيل له : نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ، فقال : احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته ، وبالقلب هو ذكر العارفين وخواص المؤمنين ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم ذكراً ، ومعناه استقرار الذكر فيه حتى لا يخطر فيه غير المذكور : قال الشاعر :

سواك ببالي لا يخطر*** إذا ما نسيتك من أذكر

وبهما : هو ذكر خواص المؤمنين ، وهذه ثلاث المقامات ، أدومها أفضلها . انتهى .

وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة ، وتركنا أشياء مما ذكره الناس ، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكران ، لا يدل اللفظ على شيء منها ، وينبغي أن يحمل ذلك من المفسرين له على سبيل التمثيل وجواز أن يكون المراد .

وأما دلالة اللفظ فهي طلب مطلق الذكر ، والذي يتبادر إليه الذهن هو الذكر اللساني .

والذكر اللساني لا يكون ذكر لفظ الجلالة مفرداً من غير إسناد ، بل لا بدّ من إسناد ، وأولاها الأذكار المروية في الآثار ، والمشار إليها في القرآن .

وقد جاء الترغيب في ذكر جملة منها ، والوعد على ذكرها بالثواب الجزيل .

وتلك الأذكار تتضمن : الثناء على الله ، والحمد له ، والمدح لجلاله ، والتماس الخير من عنده .

فعبر عن ذلك بالذكر ، وأمر العبد به ، فكأنه قيل : عظموا الله ، وأثنوا عليه بالألفاظ الدالة على ذلك .

وسمى الثواب المترتب على ذلك ذكراً ، فقال : فاذكروني أذكركم على سبيل المقابلة ، لما كان نتيجة الذكر وناشئاً عنه سماه ذكراً .

{ واشكروا لي } تقدّم تفسير الشكر ، وعداه هنا باللام ، وكذلك { أن اشكر لي ولوالديك } وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدّى بحرف جر ، وتارة تتعدّى بنفسها ، كما قال عمرو بن لجاء التميمي :

هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم*** فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل

وفي إثبات هذا النوع من الفعل ، وهو أن يكون يتعدّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر ، بحق الوضع فيهما خلاف .

وقالوا : إذا قلت : شكرت لزيد ، فالتقدير : شكرت لزيد صنيعه ، فجعلوه مما يتعدّى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه .

ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله : واشكروا لي ما أنعمت به عليكم .

وقال ابن عطية : واشكروا لي ، واشكروني بمعنى واحد ، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه : نعمتي وأيادي ، وكذلك إذا قلت : شكرتك ، فالمعنى : شكرت لك صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ، إذ معنى الشكر : ذكر اليد وذكر مسديها معاً ، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف ، انتهى كلامه ، ويحتاج ، كونه يتعدى لواحد بنفسه ، وللآخر بحرف جر ، فتقول : شكرت لزيد صنيعه ، لسماع من العرب ، وحينئذ يصار إليه .

{ ولا تكفرون } : وهو من كفر النعمة ، وهو على حذف مضاف ، أي ولا تكفروا نعمتي .

ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان ، لكان : ولا تكفروا ، أو ولا تكفروا بي .

وهذه النون نون الوقاية ، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفاً لتناسب الفواصل .

قيل : المعنى واشكروا لي بالطاعة ، ولا تكفرون بالمعصية .

وقيل : معنى الشكر هنا : الاعتراف بحق المنعم ، والثناء عليه ، ولذلك قابله بقوله : { ولا تكفرون } .

وهنا ثلاث جمل : جملة الأمر بالذكر ، وجملة الأمر بالشكر ، وجملة النهي عن الكفران .

فبدئ أولاً بجملة الذكر ، لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى ، وذكر له جواب مترتب عليه .

وثنى بجملة الشكر ، لأنه ثناء على شيء خاص ، وقد اندرج تحت الأول ، فهو بمنزلة التوكيد ، فلم يحتج إلى جواب .

وختم بجملة النهي ، لأنه لما أمر بالشكر ، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان ، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان ، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات .

ونهى عن الكفران ، لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان ، وذلك ممكن لأنه من باب التروك .

وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي ، بدئ بالأمر .

وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله : { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به } فأغنى عن إعادته هنا . .

/خ157