وجهة ، قال قوم ، منهم المازني والمبرد والفارسي : إن وجهة اسم للمكان المتوجه إليه ، فعلى هذا يكون إثبات الواو أصلاً ، إذ هو اسم غير مصدر .
قال سيبويه : ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت وعدة ، ولو بنيت مصدراً لقلت عدة .
وذهب قوم ، منهم المازني ، فيما نقل المهدوي إلى أنه مصدر ، وهو الذي يظهر من كلام سيبويه .
قال ، بعد ما ذكر حذف الواو من المصادر ، وقد أثبتوا فقالوا : وجهة في الجهة ، فعلى هذا يكون إثبات الواو شاذاً ، منبهة على الأصل المتروك في المصادر .
والذي سوّغ عندي إقرار الواو ، وإن كان مصدراً ، أنه مصدر ليس بجار على فعله ، إذ لا يحفظ وجه يجه ، فيكون المصدر جهة .
قالوا : وعد يعد عدة ، إذ الموجب لحذف الواو من عدة هو الحمل على المضارع ، لأن حذفها في المضارع لعلة مفقودة في المصدر .
ولما فقد يجه ، ولم يسمع ، لم يحذف من وجهة ، وإن كان مصدراً ، لأنه ليس مصدراً ليجه ، وإنما هو مصدر على حذف الزوائد ، لأن الفعل منه : توجه واتجه .
فالمصدر الجاري هو التوجه والاتجاه ، وإطلاقه على المكان المتوجه إليه هو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول .
الاستباق : افتعال من السبق ، وهو الوصول إلى الشيء أولاً ، ويكون افتعل منه ، إما لموافقة المجرد ، فيكون معناه ومعنى سبق واحداً ، أو لموافقة تفاعل ، فيكون استبق وتسابق بمعنى واحد .
الخيرات : جمع خيرة ، ويحتمل أن يكون بناء على فعلة ، أو بناء على فيعلة ، فحذف منه ، كالميتة واللينة .
وقد تقدّم القول في هذا الحذف ، قالوا : رجل خير ، وامرأة خيرة ، كما قالوا : رجل شر ، وامرأة شرّة ، ولا يكونان إذ ذاك أفعل التفضيل .
{ ولكل وجهة هو موليها } ، لما ذكر القبلة التي أمر المسلمون بالتوجه إليها ، وهي الكعبة ، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها ، وأن كلاً من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها ، أعلم أن ذلك هو بفعله ، وأنه هو المقدر ذلك ، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته .
ففي ذلك تنبيه على شكر الله ، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك .
وقرأ الجمهور : ولكل : منوناً ، وجهة : مرفوعاً ، هو موليها : بكسر اللام اسم فاعل .
وقرأ ابن عامر : هو مولاها ، بفتح اللام اسم مفعول وهي ، قراءة ابن عباس .
وقرأ قوم شاذاً : ولكل وجهة ، بخفض اللام من كل من غير تنوين ، وجهة : بالخفض منوناً على الإضافة ، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة ، وذلك المضاف إليه كل المحذوف اختلف في تقديره .
فقيل : المعنى : ولكل طائفة من أهل الأديان .
وقيل : المعنى : ولكل أهل صقع من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق ، إلى جهة الكعبة ، وراءها وقدّامها ، ويمينها وشمالها ، ليست جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها .
وقيل : المعنى : ولكل نبي قبلة ، قاله ابن عباس .
وقيل : المعنى : ولكل ملك ورسول صاحب شريعة جهة قبلة ، فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء قبلك بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة ، وقد اندرج في هذا الذي ذكرناه أن المراد بوجهه : قبلة ، وهو قول ابن عباس ، وهي قراءة أبيّ ، قرأ : ولكل قبلة .
وقرأ عبد الله : ولكل جعلنا قبلة .
وقال الحسن : وجهة : طريقة ، كما قال : { لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } أي لكل نبي طريقة .
وقال قتادة : وجهة : أي صلاة يصلونها ، وهو من قوله : هو موليها عائد على كل على لفظه ، لا على معناه ، أي هو مستقبلها وموجه إليها صلاته التي يتقرب بها ، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى ، أي هو موليها وجهه أو نفسه ، قاله ابن عباس وعطاء والربيع ، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ : هو مولاها .
وقيل : هو عائد على الله تعالى ، قاله الأخفش والزجاج ، أي الله موليها إياه ، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها .
فمعنى هو موليها على هذا التقدير : شارعها ومكلفهم بها .
والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة .
وأما قراءة من قرأ : ولكل وجهة على الإضافة ، فقال محمد بن جرير : هي خطأ ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ ، لا سيما وهي معزوّة إلى ابن عامر ، أحد القراء السبعة ، وقد وجهت هذه القراءة .
قال الزمخشري : المعنى : ولكل وجهة الله موليها ، فزيدت اللام لتقدمّ المفعول ، كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه .
انتهى كلامه ، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعدّ إلى ظاهره المجرور باللام .
لا يجوز أن يقول : لزيد ضربته ، ولا : لزيد أنا ضاربه .
وعليه أن الفعل إذا تعدّى للضمير بغير واسطة .
كان قوياً ، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدّم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدماً ، ولا يمكن أن يكون العامل قوياً ضعيفاً في حالة واحدة ، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين ، ولذلك تأوّل النحويون قوله هذا :
وليس نظير ما مثل به من قوله : لزيد ضربت ، أي زيداً ضربت ، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد ، ولا يجوز أن يقدر عامل في لكل وجهة يفسره قوله موليها ، كتقديرنا زيداً أنا ضاربه ، أي اضرب زيداً أنا ضاربه ، فتكون المسألة من باب الاشتغال ، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر .
تقول : زيداً مررت به ، أي لابست زيداً ، ولا يجوز : بزيد مررت به ، فيكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر ، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال ، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر ، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر ، بل إذا أردت الاشتغال نصبته ، هكذا جرى كلام العرب .
قال تعالى : { والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً } وقال الشاعر :
أثعلبة الفوارس أم رباحا*** عدلت به طهية والخشابا
وأما تمثيله : لزيد أبوه ضاربه ، فتركيب غير عربي .
فإن قلت : لم لا تتوجه هذه القراءة على أن لكل وجهة في موضع المفعول الثاني لموليها ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مولّ ، وهو الهاء ، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف ، وأنث على معنى الطوائف ، وقد تقدم ذكرهم ، ويكون التقدير : وكل وجهة الله مولّي الطوائف أصحاب القبلات ؟ فالجواب : أنه منع مع هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله ، إذا تقدّم .
أما ما يتعدى إلى اثنين ، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم ، ولا إذا تأخر .
ومولّ هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين ، فلذلك لا يجوز هذا التقدير .
وقال ابن عطية ، في توجيه هذه القراءة : أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاّكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه ، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع .
وقدم قوله : لكل وجهة على الأمر في قوله : فاستبقوا الخيرات ، للاهتمام بالوجهة ، كما تقدم المفعول .
انتهى كلام ابن عطية ، وهو توجيه لا بأس به .
{ فاستبقوا الخيرات } : هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح .
وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة ، أو قبلة ، أو صلاة ، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها .
قال قتادة : الاستباق في أمر الكعبة رغماً لليهود بالمخالفة .
وقال ابن زيد : معناه : سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : فاستبقوا الفاضلات من الجهات ، وهي الجهات المسامتة للكعبة ، وإن اختلفت .
وذكرنا أن استبق بمعنى : تسابق ، فهو يدل على الاشتراك .
{ إنا ذهبنا نستبق } أي نتسابق ، كما تقول .
واستبق لا يتعدى ، لأن تسابق لا يتعدى ، وذلك أن الفعل المتعدي ، إذا بنيت من لفظ ، معناه : تفاعل للاشتراك ، صار لازماً ، تقول : ضربت زيداً ، ثم تقول : تضاربنا ، فلذلك قيل : إن إلى هنا محذوفة ، التقدير : فاستبقوا إلى الخيرات .
ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل*** سواكم فإني مهتد غير مائل
يريد ومن يمل إلى سواكم { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً } : هذه جملة تتضمن وعظاً وتحذيراً وإظهاراً لقدرته ، ومعنى : { يأت بكم الله جميعاً } : أي يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب ، فأنتم لا تعجزونه ، وافقتم أم خالفتم ، ولذلك قال ابن عباس : يعني يوم القيامة .
وقيل : المعنى : أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً ، أي يجمعكم ويجعل صلاتكم كلها إلى جهة واحدة ، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام ، قاله الزمخشري .
{ إن الله على كل شيء قدير } تقدم شرح هذه الجملة ، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء ، أي لا يستبعد إتيان الله تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة ، فإن قدرة الله تتعلق بالممكنات ، وهذا منها .
وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها ، فكان المعنى : إتيان الله بكم جميعاً لقدرته على ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.