{ ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } : ظاهر هذه الجملة أنها كررت توكيداً لما قبلها في الآية التي تليها فقط ، لا أن ذلك توكيد للآية الأولى ، لأنا قد بينا أن الأولى في الإقامة ، والثانية في السفر ، وأما الثالثة فهي في السفر ، فهي تأكيد للثانية .
وحكمة هذا التأكيد تثبيت هذا الحكم ، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس ، لأن النسخ هو من مظان الفتنة والشبهة وتزيين الشيطان للطعن في تبديل قبلة بقبلة ، إذ كان ذلك صعباً عليهم ، فأكد بذلك أمر النسخ وثبت .
وكان التأكيد على ما قررناه بتكرير هذه الجمل مرتين ، لأن ذلك هو الأكثر المعهود في لسان العرب ، وهو أن تعاد الجملة مرة واحدة .
وقال المهدوي : كررت هذه الأوامر ، لأنه لا يحفظ القرآن كل أحد ، فكان يوجد عند بعض الناس ما ليس عند بعض لو لم يكرر .
وهذا المعنى في التكرير يروى عن جعفر الصادق ، ولهذا المعنى رفع التكرير في القصص .
وقيل : لما كانت هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا ، كررت للتأكيد والتقرير وإزالة الشبهة ،
وقد ذكر العلماء في هذه الآيات مخصصات تخرجها بذلك عن التأكيد .
فقيل : الأولى من قوله : { فول وجهك } ، نسخ للقبلة الأولى ، والثانية لاستواء الحكم في جميع الأمكنة ، والثالثة للدّوام في جميع الأزمان .
وقيل : الأولى في المسجد الحرام ، والثانية خارج المسجد ، والثالثة خارج البلد .
وقيل : الخروج الأول إلى مكان ترى فيه الكعبة ، والثاني إلى مكان لا ترى فيه ، فسوى بين الحالتين .
وقيل : الخروج الأول متصل بذكر السبب ، وهو : { وإنه للحق من ربك } ، والثاني متصل بانتفاء الحجة ، وهو : { لئلا يكون للناس عليكم حجة } .
وقيل : الأول لجميع الأحوال ، والثاني لجميع الأمكنة ، والثالث لجميع الأزمنة .
وقيل : الأول أن يكون الإنسان في المسجد الحرام ، والثاني : أن يكون خارجاً عنه وهو في البلد ، والثالث أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض ، فسوى بين هذه الأحوال ، لئلا يتوهم أن للأقرب حرمة لا تثبت للأبعد .
وقيل : التخصيص حصل في كل واحد من الثلاثة بأمر ، فالأول بين فيه أن أهل الكتاب يعلمون أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة ، حتى أنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل ، والثاني فيه شهادة الله بأن ذلك حق ، والثالث بين فيه أنه فعل ذلك { لئلا يكون للناس عليكم حجة } ، فقطع بذلك قول المعاندين .
وقيل : الأول مقرون بإكرامه تعالى إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، بقوله : { ولكل وجهة هو موليها } ، أي لكل صاحب دعوة قبلة يتوجه إليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله أنها الحق ، والثالث مقرون بقطع الله حجة من خاصمه من اليهود .
وقيل : ربما خطر في بال جاهل أنه تعالى فعل ذلك لرضا نبيه لقوله : { فلنولينك قبلة ترضاها } ، فأزال هذا الوهم بقوله : { وإنه للحق من ربك } ، أي ما حولناك لمجرد الرضا ، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق ، فليست كقبلة اليهود التي يتبعونها بمجرد الهوى ، ثم أعاد ثالثاً ، والمراد : دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة .
وقيل : كرر { وحيث ما كنتم } ، فحث بإحداهما على التوجه إلى القبلة بالقلب والبدن ، في أي مكان كان الإنسان ، نائياً كان عنها ، أو دانياً منها ، وذلك في حال التمكن والاختيار ، وحث بالأخرى على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة في حالة المسابقة ، وفي النافلة في حالة السفر ، وعلى الراحلة في السفر .
{ لئلا يكون } : هذه لام كي ، وأن بعدها لا النافية ، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون ، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم : أن لا تفعل أفعل .
وكتبت في المصحف : لا ما بعدها ياء ، بعدها لام ألف ، فجعلوا صورة للهمزة الياء ، وذلك على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء .
وقرأ الجمهور بالتحقيق : وهذه أن واجبة الإظهار هنا ، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية ، لأن في ذلك قلقاً في اللفظ ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع ، فإذا أثبتوها ، فهو الأصل ، وهو الأقل في كلامهم ، وإذا حذفوها ، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة ، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر ، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال .
{ للناس عليكم حجة } : أي احتجاج .
والناس : قيل هو عموم في اليهود والعرب وغيرهم .
وقيل : اليهود ، وحجتهم قولهم : يخالفنا محمد في قبلتنا ، وقد كان يتبعها ، أو لم ينصرف عن بيت المقدس ، مع علمه بأنه حق إلا برأيه ، ويزعم أنه أمر به ، أو ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم .
وقيل : مشركو العرب ، وحجتهم قولهم : قد رجع محمد إلى قبلتنا ، وسيرجع إلى ديننا حين صار يستقبل القبلة .
وقيل : الناس عام ، والمعنى : أن الله وعدهم بأنه لا يقوم لأحد عليهم حجة إلا حجة باطلة ، وهي قولهم : يوافق اليهود مع قوله : إني حنيف أتبع ملة إبراهيم ، أو لا يقين لكم ولا تثبتون على دين ، أو قالوا : ما لك تركت بيت المقدس ؟ إن كانت ضلالة فقد دنت بها ، وإن كانت هدى فقد نقلت عنه ، أو قولهم : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه ، أو قولهم في التوراة : إنه يتحول إلى قبلة أبيه إبراهيم ، فحوله الله ، لئلا يقولوا : نجده في التوراة يتحول فما تحول ، فيكون لهم ذلك حجة ، فأذهب الله حجتهم بذلك .
واللام في لئلا لام الجر ، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر ، أي لانتفاء الحجة عليكم .
وتتعلق هذه اللام ، قيل : بمحذوف ، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة في ذلك لئلا يكون .
وقيل : تتعلق بولوا ، والقراءة بالياء ، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي ، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين ، فسهل التذكير جداً ، وخبر كان قوله : للناس ، وعليكم : في موضع نصب على الحال ، وهو في الأصل صفة للحجة ، فلما تقدم عليها انتصب على الحال ، والعامل فيها محذوف ، ولا جائز أن يتعلق بحجة ، لأنه في معنى الاحتجاج ، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل لا يتقدم على عامله .
وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة ، هكذا نقلوا ، ويحتمل أن يكون عليكم الخبر ، وللناس متعلق بلفظ يكون ، لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور .
{ إلا الذين ظلموا منهم } ، قرأ الجمهور : إلا جعلوها أداة استثناء ، وقرأ ابن عامر وزيد بن علي وابن زيد : ألا بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا ، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح .
فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب الذين ظلموا مبتدأ ، والجملة من قوله : { فلا تخشوهم واخشوني } في موضع الخبر ، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط ، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل .
المعنى : كأنه قيل : من يظلم من الناس ، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم .
واخشوني : فلا تخالفوا أمري ، ولولا دخول الفاء لترجح نصب الذين ظلموا ، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال ، أي لا تخشوا الذين ظلموا ، لا تخشوهم ، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء ، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصباً بفعل مقدر على الإغراء .
ونقل السجاوندي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ إلى الذين ، جعلها حرف جر ، وتأوّلها بمعنى مع .
وأما على قراءة الجمهور ، فالاستثناء متصل ، قاله ابن عباس وغيره ، واختاره الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيره ، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكاناً حسناً ، كان أولى من غيره .
قال الزمخشري : ومعناه لئلا يكون حجة لأحد من اليهود ، إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء .
فإن قلت : أي حجة كانت تكون للمتصفين منهم لو لم يحوّل حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين ؟ قلت : كانوا يقولون : ما له لا يحوّل إلى قبلة أبيه إبراهيم ، كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟ فإن قلت : كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين ؟ قلت : لأنهم يسوقونه سياق الحجة ، انتهى كلامه .
وقال ابن عطية : المعنى أنه لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم من كل من تكلم في النازلة في قولهم : { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } استهزاء ، وفي قولهم : تحير محمد في دينه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن ، أو من يهودي ، أو من منافق .
وسماها تعالى : حجة ، وحكم بفسادها حين كانت من ظلمة .
وقد اتضح بهذا التقرير اتصال الاستثناء .
وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع ، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة ، يضعونها موضع الحجة ، وليست بحجة .
ومثار الخلاف هو : هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح ؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة ؟ فإن كان الأول ، فهو استثناء منقطع ، وإن كان الثاني ، فهو استثناء متصل .
قال الزجاج : أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله تعالى : { ولكل وجهة هو موليها لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا من ظلم } ، باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك عليّ حجة إلا الظلم ، أو إلا أن تظلمني ، أي ما لك حجة ألبتة ، ولكنك تظلمني .
وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلاً من ضمير الخطاب في عليكم ، ويكون التقدير : لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم ، وهم أنتم أيها المخاطبون ، بتولية وجوهكم إلى القبلة .
ونقل السجاوندي أن قطرباً قرأ : إلا على الذين ظلموا ، وهو بدل أيضاً على إظهار حرف الجر ، كقوله : { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } وهذا ضعيف ، لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب ، بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة ، ولا يجوز ذلك إلا على مذهب الأخفش .
وزعم أبو عبيد معمر بن المثنى أن إلا في الآية بمعنى الواو ، وجعل من ذلك قوله :
ما بالمدينة دار غير واحدة*** دار الخليفة إلا دار مروانا
وكل أخ مفارقه أخوه*** لعمر أبيك إلا الفرقدان
التقدير : عنده والذين ظلموا ، ودار مروان والفرقدان وإثبات إلا بمعنى الواو ، لا يقوم عليه دليل ، والاستثناء سائغ فيما ادّعى فيه أن إلا بمعنى الواو ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو .
وقال الزجاج : هذا خطأ عند حذاق النحويين ، وأضعف من هذا زعم أن إلا بمعنى بعد ، أي بعد الذين ظلموا ، وجعل من ذلك { إلا ما قد سلف } أي بعد ما قد سلف ، { إلا الموتة الأولى } أي بعد الموتة الأولى ، ولولا أن بعض المفسرين ذكر هذين القولين ، ما ذكرتهما لضعفهما .
{ فلا تخشوهم واخشوني } : هذا فيه تحقير لشأنهم ، وأمر باطراحهم ، ومراعاة لأمره تعالى .
وضمير المفعول في فلا تخشوهم يحتمل أن يعود على الناس ، أي فلا تخشوا الناس ، وأن يعود على الذين ظلموا ، أي فلا تخشوا الظالمين .
ونهى عن خشيتهم فيما يزخرفونه من الكلام الباطل ، فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر .
وأمر بخشيته هو في ترك ما أمرهم به من التوجه إلى المسجد الحرام .
وقيل : المعنى فلا تخشوهم في المباينة ، واخشوني في المخالفة ، ومعناه قريب من الأول .
وقد ذكرنا شرح هاتين الجملتين في ذكر قراءة ابن عباس بقريب من هذا .
وقال السدي : معناه لا تخشوا أن أردّكم في دينكم واخشوني ، وهذا الذي قاله لا يساعده قوله : فلا تخشوهم .
قال بعضهم : ذكر الخشية هنا ولم يذكر الخوف ، لأن الخشية حذر من أمر قد وقع ، والخوف حذر من أمر لم يقع .
والذي تدل عليه اللغة والاستعمال أن الخشية والخوف مترادفان ، وقال تعالى : { فلا تخافوهم وخافون } كما قال هنا : { فلا تخشوهم واخشوني } .
{ ولأتمّ نعمتي عليكم } : الظاهر أنه معطوف على قوله : { لئلا يكون } ، وكان المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معللاً بهاتين العلتين ، والفصل بالاستثناء وما بعده كلا فصل ، إذ هو من متعلق العلة الأولى .
وقيل : هو معطوف على علة محذوفة ، وكلاهما معلولهما الخشية السابقة ، كأنه قيل : واخشوني لأوفقكم ولأتمّ نعمتي عليكم .
وقيل : تتعلق اللام بفعل مؤخر ، التقدير : ولأتمّ نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ، ومن زعم أن الواو زائدة ، فقوله ضعيف .
وإتمام النعمة بما هداهم إليه من القبلة ، أو بما أعدّه لهم من ثواب الطاعة ، أو بما حصل للعرب من الشرف بتحويل القبلة إلى الكعبة ، أو بإبطال حجج المحتجين عليهم ، أو بإدخالهم الجنة ، أو بالموت على الإسلام ، أو النعمة سنة الإسلام ، والقرآن ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، والستر ، والعافية ، والغنى عن الناس ؛ أو بشرائع الملة الحنيفية ، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال ، لا مصدر التعيين ، وكل فيها نعمة .
{ ولعلكم تهتدون } : تقدم القول في لعل بالنسبة إلى مجيئها من الله تعالى في قوله : { والذين من قبلكم لعلكم تتقون } في أول البقرة ، وهو أول مواقعها فيه .
والمعنى : لتكونوا على رجاء إدامة هدايتي إياكم على استقبال الكعبة ، أو لكي تهتدوا إلى قبلة أبيكم إبراهيم ، والظاهر رجاء الهداية مطلقاً .
{ كما أرسلنا فيكم } : الكاف هنا للتشبيه ، وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف .
واختلف في تقديره ، فقيل التقدير : ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام إرسال الرسول فيكم .
ومتعلق الإتمامين مختلف ، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة ، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا .
أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله : { ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك } والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } وقيل : التقدير : ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت ، أي اهتداء ثابتاً متحققاً ، كتحقق إرسالنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت ، أي اهتداء ثابتاً متحققاً ، كتحقق إرسالنا وثبوته .
وقيل : متعلق بقوله : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } ، أي جعلاً مثل ما أرسلنا ، وهو قول أبي مسلم ، وهذا بعيد جدًّا ، لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع .
وقيل : الكاف في موضع نصب على الحال من نعمتي ، أي : { ولأتمّ نعمتي عليكم } مشبهة إرسالنا فيكم رسولاً ، أي مشبهة نعمة الإرسال ، فيكون على حذف مضاف .
وقيل : الكاف منقطعة من الكلام قبلها ، ومتعلقة بالكلام بعدها ، والتقدير : قال الزمخشري : كما ذكرتكم بإرسال الرسول ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب . انتهى .
فيكون على تقدير مصدر محذوف ، وعلى تقدير مضاف ، أي اذكروني ذكراً مثل ذكرنا لكم بالإرسال ، ثم صار مثل ذكر إرسالنا ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فائته بكرمك ، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل ، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم ، والمعنى : أنكم كنتم على حالة لا تقرأون كتاباً ، ولا تعرفون رسولاً ، ومحمد صلى الله عليه وسلم رجل منكم ، أتاكم بأعجب الآيات الدالة على صدقه فقال : « كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً ، فاذكروني بالشكر ، أذكركم برحمتي » ويؤكده : { لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } ويحتمل على هذا الوجه ، بل يظهر ، وهو إذا علقت بما بعدها أن ، لا تكون الكاف للتشبيه بل للتعليل ، وهو معنى مقول فيها إنها ترد له وحمل على ذلك قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } ، وقول الشاعر :
أي : واذكروه لهدايته إياكم ، ولا تشتم الناس لكونك لا تشتم ، أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك .
وما : في كما ، مصدرية ، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، ورسولاً بدل منه ، والتقدير : كالذي أرسلناه رسولاً ، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله ، ومع الكلام الذي بعده ، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل .
وكذلك جعل ما كافة ، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر ، لولايتها الجمل الإسمية ، نحو قول الشاعر :
لعمرك إنني وأبا حميد***كما النشوان والرجل الحليم
وقول من قال إن : كما أرسلنا ، متعلق بما بعده ، قد ردّه أبو محمد مكي بن أبي طالب ، قال : لأن الأمر إذا كان له جواب ، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه ، قال : لو قلت كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك ، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني ، لأن له جواباً ، ولكن تتعلق بشيء آخر ، أو بمضمر ، وكذلك : فاذكروني أذكركم ، هو أمر له جواب ، فلا تتعلق كما به ، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين ، وهو قولك : إذا أتاك فلان فائته ترضه ، فتكون كما وفاذكروني جوابين للأمر ، والأول أفصح وأشهر .
وتقول : كما أحسنت إليك فأكرمني ، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني ، إذ لا جواب له .
ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها ، وهو : { ولأتم نعمتي عليكم } ، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى : ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم ، كما أجبنا دعوته فيكم ، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم يتلو .
وما ذهب إليه مكي من إبطال أن ، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء ، لأن الكاف ، إما أن تكون للتشبيه ، أو للتعليل .
فإن كانت للتشبيه ، فتكون نعتاً لمصدر محذوف ، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني إكراماً مثل إكرامي السابق لك أكرمك ، فيجوز تقديم هذا المصدر .
وإن كانت للتعليل ، فيجوز أيضاً تقدم ذلك على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني لإكرامي لك أكرمك ، لا نعلم خلافاً في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما ، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته ، كما وفاذكروني جوابين للأمر ، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب ، ولأن ذلك التشبيه فاسد ، لأن المصدر لا يشبه الجواب ، وكذلك التعليل .
أما المصدر التشبيهي ، فهو وصف في الفعل المأمور به ، فليس مترتباً على وقوع مطلق الفعل ، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف .
وعلى هذا لا يشبه الجواب ، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل .
وأما التعليل ، فكذلك أيضاً ليس مترتباً على وقوع الفعل ، بل الفعل مترتب على وجود العلة ، فهو نقيض الجواب ، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل ، والعلة مترتب عليها وجود الفعل ، فلا تشبيه بينهما ، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله : فاذكروني ، هو الفاء ، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيها قبلها ، ولولا الفاء لكان التعلق واضحاً ، وتبعد زيادة الفاء .
فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها ، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام .
وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام ، بإتمام النعمة السابقة ، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعالى بها ، وجعل ذلك إتماماً للنعمة في الحالين ، لأن استقبال الكعبة ثانياً أمر لا يزاد عليه شيء ينسخه ، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة .
كما أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم هو آخر إرسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إذ لا نبي بعده ، وهو خاتم النبيين .
فشبه إتمام تلك النعمة ، التي هي كمال نعمة استقبال القبل ، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل .
وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب ، وشرف واستمالة لقلوبهم ، إذ كان الرسول منهم ، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بيتهم الذي يحجونه قديماً وحديثاً ويعظمونه .