البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَكُنُوزٖ وَمَقَامٖ كَرِيمٖ} (58)

{ وكنوز } : هي الأموال التي خربوها .

قال مجاهد : سماها كنوزاً لأنه لم ينفق في طاعة الله قط .

وقال الضحاك : الكنوز : الأنهار .

قال صاحب التحبير : وهذا فيه نظر ، لأن العيون تشملهما .

وقيل : هي كنوز المقطم ومطالبه .

قال ابن عطية : هي باقية إلى اليوم . انتهى .

وأهل مصر في زماننا في غاية الطلب لهذه الكنوز التي زعموا أنها مدفونة في المقطم ، فينفقون على حفر هذه المواضع في المقطم الأموال الجزيلة ، ويبلغون في العمق إلى أقصى غاية ، ولا يظهر لهم إلا التراب أو حجر الكذان الذي المقطم مخلوق منه ، وأي مغربي يرد عليهم سألوه عن علم المطالب .

فكثير منهم يضع في ذلك أوراقاً ليأكلوا أموال المصريين بالباطل ، ولا يزال الرجل منهم يذهب ماله في ذلك حتى يفتقر ، وهو لا يزداد إلا طلباً لذلك حتى يموت .

وقد أقمت بين ظهرانيهم إلى حين كتابة هذه الأسطر ، نحواً من خمسة وأربعين عاماً ، فلم أعلم أن أحداً منهم حصل على شيء غير الفقر ؛ وكذلك رأيهم في تغوير الماء .

يزعمون أن ثم آباراً ، وأنه يكتب أسماء في شقفة ، فتلقى في البئر ، فيغور الماء وينزل إلى باب في البئر ، يدخل منه إلى قاعة مملوءة ذهباً وفضة وجوهراً وياقوتاً .

فهم دائماً يسألون من يرد من المغاربة عمن يحفظ تلك الأسماء التي تكتب في الشقفة ، فيأخذ شياطين المغاربة منهم مالاً جزيلاً ، ويستأكلونهم ، ولا يحصلون على شيء غير ذهاب أموالهم ، ولهم أشياء من نحو هذه الخرافات ، يركنون إليها ويقولون بها ، وإنما أطلت في هذا على سبيل التحذير لمن يعقل .

وقوله تعالى : { ومقام كريم } .

قال ابن لهيعة : هو الفيوم .

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : هو المنابر للخطباء .

وقيل : الأسرة في الكلل .

وقيل : مجالس الأمراء والأشراف والحكام .

وقال النقاش : المساكن الحسان .

وقيل : مرابط الخيل ، حكاه الماوردي .

وقرأ قتادة ، والأعرج : ومقام ، بضم الميم من أقام كذلك .

قال الزمخشري : يحتمل ثلاثة أوجه : النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه ، والجر على أنه وصف لمقام ، أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي الأمر كذلك . انتهى .

فالوجه الأول لا يسوغ ، لأنه يؤول إلى تشبيه الشيء بنفسه ، وكذلك الوجه الثاني ، لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم ، ولا يشبه الشيء بنفسه .