البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبۡلُۚ وَلَيَحۡلِفُنَّ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّا ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (107)

{ والذين اتخذوا مسجداً ضراراً كفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالاً وأفعالاً ذكر أنّ منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعاً للمنافقين يدبرون فيه ما شاءوا من الشر ، وسموه مسجداً .

ولما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء وصلى فيه ودعا لهم ، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف ، وبنو سالم بن عوف ، وحرضهم أبو عمرو الفاسق على بنائه حين نزل الشام هارباً من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال : ابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر آتى بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه ، فبنوه إلى مسجد قباء ، وكانوا اثنى عشر رجلاً من المنافقين : خذام بن خالد .

ومن داره أخرج المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وحارثة بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ونبتل بن الحرث ، وعباد بن حنيف ، ونجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت ، وأبو حنيفة الأزهر ، وبخرج بن عمرو ، ورجل من بني ضبيعة ، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجد لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، وتدعوا لنا بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم : « إني على جناح سفر وحال وشغل ، وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه » وكان إمامهم مجمع بن جارية وكان غلاماً قارئاً للقرآن حسن الصوت ، وهو ممن حسن إسلامه ، وولاه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة ، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك نزل بذي أوانٍ بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا مالك بن الدخشم ومعناً وعاصماً ابني عدي .

وقيل : بعث عمار بن ياسر ووحشياً قاتل حمزة بهدمه وتحريقه ، فهدم وحرق بنار في سعف ، واتخذ كناسة ترمى فيها الجيف والقمامة .

وقال ابن جريج : صلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وانهار يوم الاثنين ولم يحرق .

وقرأ أهل المدينة : نافع ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وغيرهم ، وابن عامر : الذين بغير واو ، كذا هي في مصاحف المدينة والشام ، فاحتمل أن يكون بدلاً من قوله : وآخرون مرجون ، وأن يكون خبر ابتداء تقديره : هم الذين ، وأن يكون مبتدأ .

وقال الكسائي : الخبر لا تقم فيه أبداً .

قال ابن عطية : ويتجه بإضمار إما في أول الآية ، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم .

وقال النحاس والحوفي : الخبر لا يزال بنيانهم .

وقال المهدوي : الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه .

وقرأ جمهور القراء : والذين بالواو وعطفاً على وآخرون أي : ومنهم الذين اتخذوا ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعرب مبتدأ .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : والذين اتخذوا ما محله من الإعراب ؟ ( قلت ) : محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى : { والمقيمين الصلاة } وقيل : هو مبتدأ وخبره محذوف ، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى :

{ والسارق والسارقة } وانتصب ضراراً على أنه مفعول من أجله أي : مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ، ومعازّة وكفراً وتقوية للنفاق ، وتفريقاً بين المؤمنين ، لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم ، فأرادوا أنْ يفترقوا عنه وتختلف كلمتهم ، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه ، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان .

ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موضع الحال .

وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ثانياً لاتخذوا ، وإرصاداً أي : إعداداً لأجل من حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد تعبد في الجاهلية فسمي الراهب ، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم الفاسق ، وكان سيداً في قومه نظيراً وقريباً من عبد الله بن أبي بن سلول ، فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهراً بذلك ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد محاورة : « لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم » فلم يزل يقاتله وحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب ، فلما ردهم الله بغيظهم أقام بمكة مظهراً للعداوة ، فلما كان الفتح هرب إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام يريد قيصر مستنصراً على الرسول ، فمات وحيداً طريداً غريباً بقنسرين ، وكان قد دعا بذلك على الكافرين وأمّن الرسول ، فكان كما دعا ، وفيه يقول كعب بن مالك :

معاذ الله من فعل خبيث ***

كسعيك في العشيرة عبد عمرو

وقلت بأن لي شرفاً وذكراً *** فقد تابعت إيماناً بكفر

وقرأ الأعمش : وإرصاداً للذين حاربوا الله ورسوله ، والظاهر أنّ من قبل متعلقاً بحارب ، يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، أي : من قبل اتخاذ هذا المسجد .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم يتصل قوله تعالى : من قبل ؟ ( قلت ) : باتخذوا أي : اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف انتهى .

وليس بظاهر ، والخالف هو بخرج أي : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى والتوسعة علينا وعلى من ضعف أو عجز عن المسير إلى مسجد قباء .

قال الزمخشري : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى ، أو لإرادة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسع على المصلين انتهى .

كأنه في قوله : إلا الخصلة الحسنى جعله مفعولاً ، وفي قوله : أو لإرادة الحسنى جعله علة ، وكأنه ضمن أراد معنى قصد أي : ما قصدنا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإرادة الحسنى وهي الصلاة ، وهذا وجه متكلف ،