يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن ، ومبينا علو قدره ، وأنه ينبغي وأن تخشع له القلوب ، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد : { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي : فإن كان الجبل في غلظته وقساوته ، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه ، لخشع وتصدع من خوف الله ، عز وجل ، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع ، وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه ؟ ولهذا قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
قال العوفي : عن ابن عباس في قوله : { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا ] } {[28617]} إلى آخرها ، يقول : لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حَمّلته إياه ، لتصدع{[28618]} وخشع من ثقله ، ومن خشية الله . فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآنُ أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع . ثم قال : كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون . وكذا قال قتادة ، وابن جرير .
وقد ثبت في الحديث المتواتر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر ، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد ، فلما وضع المنبر أول ما وضع ، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ، فعند ذلك حَنّ الجذع وجعل{[28619]} يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّن{[28620]} ، لما كان يُسمَع من الذكر والوحي عنده . ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده : " فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع " {[28621]} . وهكذا هذه الآية الكريمة ، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته ، لخشعت وتصدعت من خشيته{[28622]} فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم ؟ وقد قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } الآية [ الرعد : 31 ] . وقد تقدم أن معنى ذلك : أي لكان هذا القرآن . وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [ البقرة : 74 ] .
لما حذّر المسلمين من الوقوع في مهواة نسيان الله التي وقع فيها الفاسقون ، وتوعد الدين نَسُوا الله بالنار ، وبيّن حالهم بأن الشيطان سوّل لهم الكفر . وكان القرآن دالاً على مسالك الخير ومحذّراً من مسالك الشر ، وما وقع الفاسقون في الهلكة إلا من جراء إهمالهم التدبر فيه ، وذلك من نسيانهم الله تعالى انتقل الكلام إلى التنويه بالقرآن وهديه البيّن الذي لا يصرف الناسَ عنه إلا أهواؤهم ومكابرتهم ، وكان إعراضهم عنه أصل استمرار ضلالهم وشركهم ، ضَرب لهم هذا المثل تعجيباً من تصلبهم في الضلال .
وفي هذا الانتقال إيذان بانتهاء السورة لأنه انتقال بعد طول الكلام في غرضضِ فَتح قُرى اليهود وما ينال المنافقين من جَرَّائِه من خسران في الدنيا والآخرة .
و { هذا القرآن } إشارة إلى المقدار الذي نَزل منه ، وهو ما عرفوه وتلَوه وسمعوا تلاوته .
وفائدة الإِتيان باسم إشارة القريب التعريض لهم بأن القرآن غير بعيد عنهم . وأنه في متناولهم ولا كلفة عليهم في تدبره ولكنهم قصدوا الإِعراض عنه .
وهذا مثَلٌ ساقه الله تعالى كما دلّ عليه قوله : { وتلك الأمثال } الخ . وقد ضرب هذا مثلاً لقسوة الذين نَسُوا الله وانتفاء تأثرهم بقوارع القرآن .
والمراد بالجبل : حقيقته ، لأن الكلام فرض وتقدير كما هو مقتضى { لَو } أن تجيء في الشروط المفروضة .
فالجبل : مثال لأشد الأشياء صلابة وقلة تأثر بما يقرعه . وإنزال القرآن مستعار للخطاب به . عبر عنه بالإِنزال على طريقة التبعية تشبيهاً لشرف الشيء بعلوّ المكان ، ولإِبلاغه للغير بإنزال الشيء من علوّ .
والمعنى : لو كان المخاطب بالقرآن جَبلاً ، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثر بخطاب القرآن تأثراً ناشئاً من خشية لله خشية تؤثرها فيه معاني القرآن .
والمعنى : لو كان الجبل في موضع هؤلاء الذين نسُوا الله وأعرضوا عن فهم القرآن ولم يتّعظوا بمواعظه لاتَّعظ الجبل وتصدّع صخرهُ وتربه من شدة تأثره بخشية الله .
وضرَب التصدع مثلاً لشدة الانفعال والتأثر لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنْشَقَّ وتتصدع إذ لا يحصل ذلك لها بسهولة .
والخشوع : التطأطؤ والركوع ، أي لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض .
والتصدع : التشقق ، أي لتزلزل وتشقق من خوفه الله تعالى .
والخطاب في { لرأيته } لغير معيّن فيعمّ كل من يسمع هذا الكلام والرؤية بصرية ، وهي منفية لوقوعها جواباً لحرف { لو } الامتناعية .
والمعنى : لو كان كذلك لرأيت الجبل في حالة الخشوع والتصدع .
وجملة { وتلك الأمثال نضربها للناس } تذييل لأن ما قبلها سيق مساق المثل فذُيّل بأن الأمثال التي يضربها الله في كلامه مثلَ المثل أراد منها أن يتفكروا فإن لم يتفكروا بها فقد سُجّل عليهم عنادُهم ومكابرتهم ، فالإِشارة بتلك إلى مجموع ما مرّ على أسماعهم من الأمثال الكثيرة ، وتقديرُ الكلام : ضربنا هذا مثلاً ، { وتلك الأمثال نضربها للناس } .
وضرب المثل سَوقه ، أطلق عليه الضرب بمعنى الوضع كما يقال : ضرب بيتاً ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً } ما في سورة [ البقرة : 26 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم وعظهم، فقال: {لو أنزلنا هذا القرآن} الذي فيه أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحرامه وحلاله {على جبل} وحملته إياه {لرأيته} يا محمد {خاشعا} يعني خاضعا {متصدعا من خشية الله} فكيف لا يرق هذا الإنسان ولا يخشى الله. فأمر الله الناس الذين هم أضعف من الجبل الأصم... أن يأخذوا القرآن بالخشية والشدة والتخشع.
فضرب الله لذلك مثلا، فقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم} يعني لكي {يتفكرون} في أمثال الله فيعتبروا في الربوبية...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل}، وهو حجر، لرأيته يا محمد" خاشعا "يقول: متذللاً، متصدعا من خشية الله على قساوته، حذرا من أن لا يؤدّي حقّ الله المفترض عليه في تعظيم القرآن، وقد أنزل على ابن آدم، وهو بحقه مستخفٌ، وعنه عما فيه من العِبَر والذكر مُعْرض، كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وَقْرا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف الناس في تأويل هذه الآية على التمثيل، وهي على التنبيه والتذكير، وذهبوا في ذلك إلى أن العرب إذا استقبلهم أمر، وأرادوا أن يصفوه بالعظم والشدة، كانوا يضربون الأمثال بما يعظم ذلك عندهم وصفه، لم يكونوا يريدون به الحقيقة في ذلك، وهو كقولهم عند شدة الأمر: أظلم علي ما بين السماء والأرض، وكقولهم: ضاقت علي الأرض برحبها، وكما وصف الله تعالى من أمر لوط عليه السلام: {وضاق بهم ذرعا} [هود: 77]. وكذلك قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} يقول: لو كانت هذه الحجج أنزلت على جبل مع صلابته وشدته لخضع لله تعالى، وانصدع من خشيته على وجه التمثيل، لكن قلوب هؤلاء أقسى منه حين لم تخضع، ولم تخشع. وهو كقوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} [البقرة: 74].
وقال قائلون: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} [إنه على] حقيقة ذلك الفعل منه، وهو الانصداع والخشوع، وكذلك تأويل قوله تعالى: {تكاد السماوات يتفطرن منه} [مريم: 90]. فمعناه: لو كان نزول هذا القرآن وما فيه من الأحكام والأمانات التي أوجب على البشر على الجبل، وكان هو بحيث يملك قبول ذلك باختياره لقيام شرائطه لكان هو يفزع، ويخضع، ويتصدع، من خشية الله تعالى، وكان لا يقبل مخافة ألا يمكنه أداء ما لزم بنزوله، وهو كقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال} الآية [الأحزاب: 72] فيقول: معناه: لو أنزلنا هذه الأمانات التي في هذا القرآن {على جبل لرأيته خاشعا متصدعا} إذ الأمانات التي في هذا القرآن مما قد تلزم المرء [ولا يمكنه] أداؤها كلها، لأن الأمانات مما يكثر عدها فضلا عن ألا يمكنه أداؤها.
وقال بعضهم: في هذه الآية يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم منته عليه وعلى جميع الرسل: لولا فضل الله ومنته على الرسل لكان لا يطيق أحد من الرسل حمل ما في الكتب ولا أداء ما فرض الله عليهم من أداء الرسالة، لكنه من عليهم أن يسر عليهم ذلك حتى قاموا بذلك كله، فهو كقوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل: 5] [وقوله في مواضع أخر] {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مّدّكر} [القمر: 17 و...] فيسر عليهم، وثقل العمل بما فيه؛ فيقولون: كذلك قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} لثقل ما فيه. لكنه من عليك، ويسر ذكره عليك، ووفقك بتبليغ ما فيه إلى أهله.فأما إني لا علم لي بحقيقة تأويل هذه الآية، ولولا أن في الآية تذكيرا وتنبيها، لكنا نقول: هي من التشابه المكتوم الذي لا يفسر.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ}... {لَّرَأَيْتَهُ} في صلابته ورزانته {خَاشِعاً} ذليلا خاضعاً {مُّتَصَدِّعاً} يعني متشققاً.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لو أنزلنا هذا القرءآن على جبل} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أننا لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لما ثبت له بل انصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال.
الثاني: أنه خطاب للأمة، وأن الله لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً، فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على رده إن عصى، لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب.
وفيه قول ثالث: إن الله تعالى ضربه مثلاً للكفار أنه إذا نزل هذا القرآن على جبل خشع لوعده وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان قد مر في هذه السورة فضلاً عما تقدمها من حكمة هذا القرآن وإعجازه تارة بمطابقته لما نزل بسببه مطابقة تجلو عنه كل إشكال، وتارة بما يشاهد من صدقه فيما أخبر بإتيانه من الأفعال، وأخرى بما يتحدى به من الأقوال، ومرة بنظم كل جملة مع ما تقدمها على ما لم يمكن لبشر مثله في الأحوال إلى غير ذلك من أمور لا يحصرها المقال، ترتب على ذلك قوله مبيناً أن سبب افتراق الفريقين في العقبى افتراقهم في هذا القرآن في الأولى تمثيلاً للقلوب في قسوتها أو لينها عند سماع القرآن، وتخيلاً توبيخاً للقاسي، ومدحاً للعاطف اللين، لافتاً القول إلى أسلوب العظمة لاقتضاء الحال لها: {لو أنزلنا} بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال {هذا القرآن} أي الجامع لجميع العلوم، الفارق بين كل ملتبس -المبين لجميع الحكم {على جبل} أي أي جبل كان {لرأيته} مع صلابته وفوته يا أشرف الخلق إن لم يتأهل غيرك لمثل تلك الرؤية {خاشعاً} أي مطمئناً مخبتاً على صلابته متذللاً باكياً {متصدعاً} أي متشققاً غاية التشقق كما تصدع الطور لتجلينا له بما دون ذلك من العظمة التي جلونا كلامنا الشريف لموسى عليه السلام في ملابسها {من خشية الله} أي من الخوف العظيم ممن له الكمال كله حذراً من أن لا يكون مؤدياً ما افترض عليه من تعظيم القرآن عند سماعه فما لابن لآدم وقد آتاه الله من العقل ما لم يؤت الجبل يستخف بحقه، ويعرض عما فيه من العبر،...
ولما كان التقدير تبكيتاً وتوبيخاً لمن لم يرق للقرآن: {أفلم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} [الحديد: 16] فإنا قد فصلنا لهم الحلال والحرام والأمر والنهي وأوضحنا الحكم ودللنا على المتشابه وقصصنا الأقاصيص بعد جعلهم عقلاء ناطقين، فتلك أقاصيص الماضين لعلهم يعتبرون عطف عليه قوله: {وتلك الأمثال} أي التي لا يضاد فيها شيء {نضربها للناس} أي الذين يحتاجونها وهم من فيهم تذبذب واضطراب {لعلهم يتفكرون} أي لتكون حالهم عند من ينظرهم حال من يرجى تفكره في تلك الأمثال فينفعه ذلك إذا أداه التفكر إلى التذكر فرأى تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم له أن كل ما في القرآن من شيء ففيه مشاهد منه فتطابق له كتاب الخلق و كتاب الأمر فتخلى عن الشهوات البهيمية فنجا من الحظوظ النفسية فتحلى بالملابس الروحانية فصار بالمجاهدات والمنازلات إلى الصفات الملكية فكان أهلاً للمقامات القدسية في الجنان العلية...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
خشية الله أي: لكمال تأثيره في القلوب، فإن مواعظ القرآن أعظم المواعظ على الإطلاق، وأوامره ونواهيه محتوية على الحكم والمصالح المقرونة بها، وهي من أسهل شيء على النفوس، وأيسرها على الأبدان، خالية من التكلف لا تناقض فيها ولا اختلاف، ولا صعوبة فيها ولا اعتساف، تصلح لكل زمان ومكان، وتليق لكل أحد. فإن التفكر فيها يفتح للعبد خزائن العلم، ويبين له طرق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق، فلا أنفع للعبد من التفكر في القرآن والتدبر لمعانيه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهي صورة تمثل حقيقة. فإن لهذا القرآن لثقلا وسلطانا وأثرا مزلزلا لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته. ولقد وجد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما وجد، عندما سمع قارئا يقرأ: "والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع..." فارتكن إلى الجدار. ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهرا مما ألم به!
واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحا لتلقي شيء من حقيقة القرآن، يهتز فيها اهتزازا ويرتجف ارتجافا. ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام، أو أشد. والذين أحسوا شيئا من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقا لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي.
(وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون).. وهي خليقة بأن توقظ القلوب للتأمل والتفكير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما حذّر المسلمين من الوقوع في مهواة نسيان الله التي وقع فيها الفاسقون، وتوعد الذين نَسُوا الله بالنار، وبيّن حالهم بأن الشيطان سوّل لهم الكفر. وكان القرآن دالاً على مسالك الخير ومحذّراً من مسالك الشر، وما وقع الفاسقون في الهلكة إلا من جراء إهمالهم التدبر فيه، وذلك من نسيانهم الله تعالى انتقل الكلام إلى التنويه بالقرآن وهديه البيّن الذي لا يصرف الناسَ عنه إلا أهواؤهم ومكابرتهم، وكان إعراضهم عنه أصل استمرار ضلالهم وشركهم، ضَرب لهم هذا المثل تعجيباً من تصلبهم في الضلال. وفي هذا الانتقال إيذان بانتهاء السورة لأنه انتقال بعد طول الكلام في غرضِ فَتح قُرى اليهود وما ينال المنافقين من جَرَّائِه من خسران في الدنيا والآخرة. و {هذا القرآن} إشارة إلى المقدار الذي نَزل منه، وهو ما عرفوه وتلَوه وسمعوا تلاوته. وفائدة الإِتيان باسم إشارة القريب، التعريض لهم بأن القرآن غير بعيد عنهم. وأنه في متناولهم ولا كلفة عليهم في تدبره، ولكنهم قصدوا الإِعراض عنه. والمعنى: لو كان الجبل في موضع هؤلاء الذين نسُوا الله وأعرضوا عن فهم القرآن ولم يتّعظوا بمواعظه لاتَّعظ الجبل وتصدّع صخرهُ وتربه من شدة تأثره بخشية الله. وضرَب التصدع مثلاً لشدة الانفعال والتأثر لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنْشَقَّ وتتصدع، إذ لا يحصل ذلك لها بسهولة.والخطاب في {لرأيته} لغير معيّن فيعمّ كل من يسمع هذا الكلام والرؤية بصرية، وجملة {وتلك الأمثال نضربها للناس} تذييل لأن ما قبلها سيق مساق المثل فذُيّل بأن الأمثال التي يضربها الله في كلامه مثلَ المثل أراد منها أن يتفكروا، فإن لم يتفكروا بها فقد سُجّل عليهم عنادُهم ومكابرتهم، فالإِشارة بتلك إلى مجموع ما مرّ على أسماعهم من الأمثال الكثيرة، وتقديرُ الكلام: ضربنا هذا مثلاً، {وتلك الأمثال نضربها للناس}.وضرب المثل سَوقه، أطلق عليه الضرب بمعنى الوضع.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
يريد الله أن يوجّه اهتمام الإنسان إلى هذا القرآن ليقرأه ويتدبره ويعيش مع مفاهيمه المتحركة في مضمون آياته، ليرى فيها ربه، ويتعرف إلى نفسه وإلى الحياة من حوله، ويعي دوره الكبير في خلافة الله في الأرض، فلا ينظر إليه ككتاب تتحرك فيه الكلمات حسب المعاني اللغوية في كتب اللغة، بل يعيش معانيه من خلال الآفاق التي تنطلق إليها الروح في عمق الإيمان، فكان المثل الذي يوضح الصورة هو السبيل إلى إيجاد التأثير العميق الذي يمكن للقرآن أن يتركه في وجدان الإنسان الروحي. {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ} بما فيه من عبرٍ وعِظاتٍ ووصايا ونصائح، ومفاهيم وأحكام، وترغيب وترهيب، وتعداد لمواقع عظمة الله في الكون، ولامتداد قدرته في خلقه، وهيمنته على الأمر كله، {عَلَى جَبَلٍ} بكل ما يمثله الجبل من جمود الإحساس لغياب الحياة في داخله، ومن صلابة الصخر في صخوره القاسية، ومن ضخامة الحجم الذي يطل به على الأفق الواسع ليحجب الكثير منه في امتداد النظر، مما لا تستطيع الرياح أن تهز جبروته، ولا الزلازل أن تسقط قمته، ولكن هناك شيئاً يختلف عن عصف الرياح وخطورة الزلازل، يمكن أن يصدعه فيتشقق، ويثير الإحساس فيه فيخشع، وهو القرآن النازل من الله عليه لو قدر أن ينزله الله عليه كما أنزله على الإنسان، {لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} لأن طبيعة معانيه تؤثر في العمق منه، بالرغم من الصلابة والضخامة والجمود الذاتي فيه، وإذا كانت هذه هي الحال مع الجبل، فكيف يجب أن يتمثله الإنسان المملوء وعياً وشعوراً في انفعاله به في ما يعيشه من خشية الله،
{وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} في ما يستهدفه القرآن من أسلوب الأمثال الذين يعني تشبيه الأشياء ببعضها البعض، لإيضاح الفكرة، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ليكتشفوا من خلال الفكر شيئاً جديداً في المعرفة، وأفقاً واسعاً في وعي العقل والشعور.