تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَـَٔابِ} (36)

يقول تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } وهم قائمون بمقتضاه { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ } أي : من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ البقرة : 121 ] وقال تعالى : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي : إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لحقا وصدقا مفعولا لا محالة ، وكائنا ، فسبحانه ما أصدق وعده ، فله الحمد وحده ، { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 109 ] .

وقوله : { وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ } أي : ومن الطوائف من يكذّب ببعض ما أنزل إليك .

وقال مجاهد : { وَمِنَ الأحْزَابِ } اليهود والنصارى ، من ينكر بعضه ما جاءك من الحق . وكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

وهذا كما قال تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ آل عمران : 199 ] .

{ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ } أي : إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له ، كما أرسل الأنبياء من قبلي ، { إِلَيْهِ أَدْعُو } أي : إلى سبيله أدعو الناس ، { وَإِلَيْهِ مَآبِ } أي : مرجعي ومصيري .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَـَٔابِ} (36)

{ والذين ءاتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه }

الواو للاستئناف . وهذا استئناف ابتدائي انتقل به إلى فضل لبعض أهل الكتاب في حسن تلقيهم للقرآن بعد الفراغ من ذكر أحوال المشركين من قوله : { كذلك أرسلناك في أمة } [ سورة الرعد : 30 ] الخ ، ولذلك جاءت على أسلوبها في التعقيب بجملة { قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به } [ سورة الرعد : 36 ] .

والمناسبة هي أن الذين أرسل إليهم بالقرآن انقسموا في التصديق بالقرآن فِرقاً ؛ ففريق آمنوا بالله وهم المؤمنون ، وفريق كفروا به وهم مصداق قوله : { وهم يكفرون بالرحمن } [ سورة الرعد : 30 ] ، كما تقدم أنه عائد إلى المشركين المفهومين من المقام كما هو مصطلح القرآن .

وهذا فريق آخر أيضاً أهل الكتاب وهو منقسم أيضاً في تلقي القرآن فرقتين : فالفريق الأول صدّقوا بالقرآن وفرحوا به وهم الذين ذُكروا في قوله تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } في سورة العقود ( 83 ) ، وكلهم من النصارى مثل ورقة بن نوفل وكذلك غيره ممن بلغهم القرآن أيام مُقام النبي بمكة قبل أن تبلغهم دعوة النبي فإن اليهود كانوا قد سُرُّوا بنزول القرآن مصدّقاً للتوراة ، وكانوا يحسبون دعوة النبي مقصورة على العرب فكان اليهود يستظهرون بالقرآن على المشركين ، قال تعالى : { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } [ سورة البقرة : 89 ] . وكان النصارى يستظهرون به على اليهود ؛ وفريق لم يثبت لهم الفرحُ بالقرآن وهم معظم اليهود والنصارى البعداء عن مكة وما كفر الفريقان به إلا حين علموا أن دعوة الإسلام عامة .

وبهذا التفسير تظهر بلاغة التعبير عنهم بيفرحون دون { يؤمنون } . وإنما سلكنا هذا الوجه بناءً على أن هذه السورة مكية كان نزولها قبل أن يُسلم عبد الله بن سلام وسَلْمان الفارسي وبعض نصارى نجران وبعض نصارى اليمن ، فإن كانت السورة مدنية أو كان هذا من المدني فلا إشْكال . فالمراد بالذين آتياناهم الكتاب الذين أوتوه إيتاء كاملاً ، وهو المجرد عن العصبية لما كانوا عليه وعن الحسد ، فهو كقوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به } [ سورة البقرة : 121 ] .

فالأظهر أن المراد بالأحزاب أحزابُ الذين أوتوا الكتاب ، كما جاء في قوله تعالى : { فاختلف الأحزاب من بينهم } في سورة مريم ( 37 ) ، أي ومن أحزابهم من ينكر بعض القرآن ، فاللام عوض عن المضاف إليه . ولعل هؤلاء هم خبثاؤهم ودُهاتهم الذين توسموا أن القرآن يبطل شرائعهم فأنكروا بعضه ، وهو ما فيه من الإيماء إلى ذلك من إبطال أصول عقائدهم مثل عُبودية عيسى عليه السلام بالنسبة للنصارى ، ونبوءته بالنسبة لليهود .

وفي التعبير عنهم بالأحزاب إيماء إلى أن هؤلاء هم المتحزبون المتصلبون لقومهم ولما كانوا عليه . وهكذا كانت حالة اضطراب أهل الكتاب عندما دمغتهم بعثة النبي وأخذ أمر الإسلام يفشو .

{ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه ادعوا وإليه مئاب } .

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن للفريقين بأنه ما أمر إلا بتوحيد الله كما في الآية الأخرى : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [ سورة آل عمران : 64 ] ، فمن فرح بالقرآن فليزدد فرحاً ومن أنكر بعضه فليأخذ بما لا ينكره وهو عدم الإشراك . وقد كان النصارى يتبرؤون من الشرك ويعُدّون اعتقاد بُنوة عيسى عليه السلام غير شرك .

وهذه الآية من مجاراة الخصم واستنزال طائر نفسه كيلا ينفر من النظر . وبهذا التفسير يظهر موقع جملة { قل إنما أمرت أن أعبد الله } بعد جملة { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون } وأنها جواب للفريقين .

وأفادت { إنما } أنه لم يؤمر إلا بأن يعبد الله ولا يشرك به ، أي لا بغير ذلك مما عليه المشركون ، فهو قصر إضافي دلت عليه القرينة .

ولما كان المأمور به مجموع شيئين : عبادة الله ، وعدم الإشراك به في ذلك آل المعنى : أني ما أمرت إلا بتوحيد الله .

ومن بلاغة الجدل القرآني أنه لم يأت بذلك من أول الكلام بل أتى به متدرّجاً فيه فقال : { أن أعبد الله } لأنه لا ينازع في ذلك أحد من أهل الكتاب ولا المشركين ، ثم جاء بعده { ولا أشرك } به لإبطال إشراك المشركين وللتعريض بإبطال إلهية عيسى عليه السلام لأن ادعاء بنوته من الله تعالى يؤول إلى الإشراك .

وجملة { إليه أدعوا وإليه مآب } بيان لجملة { إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به } ، أي أن أعبده وأن أدعو الناس إلى ذلك ، لأنه لما أمر بذلك من قبل الله استفيد أنه مرسل من الله فهو مأمور بالدعوة إليه .

وتقديم المجرور في الموضعين للاختصاص ، أي إليه لا إلى غيره أدعُو ، أي بهذا القرآن ، وإليه لا إلى غيره مئابي ، فإن المشركين يرجعون في مهمّهم إلى الأصنام يستنصرونها ويستغيثونها ، وليس في قوله هذا ما ينكره أهل الكتاب إذ هو مما كانوا فيه سواء مع الإسلام . على أن قوله : { وإليه مآب } يعم الرجوع في الآخرة وهو البعث . وهذا من وجوه الوفاق في أصل الدين بين الإسلام واليهودية والنصرانية .

وحذف ياء المتكلم من { مآبي } كحذفها في قوله : { عليه توكلت وإليه متاب } [ الرعد : 30 ] ، وقد مضى قريباً .