تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ} (154)

وقوله تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } يخبر تعالى أن الشهداء في بَرْزَخِهم أحياء يرزقون ، كما جاء في صحيح مسلم : " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت{[2968]} ثم تأوي إلى قناديل مُعَلَّقة تحت العرش ، فاطَّلع عليهم ربك اطِّلاعَة ، فقال : ماذا تبغون ؟ فقالوا : يا ربنا ، وأيّ شيء نبغي ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك ؟ ثم عاد إليهم بمثل هذا ، فلما رأوا أنهم لا يُتْرَكُون من أن يسألوا ، قالوا : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا ، فنقاتل في سبيلك ، حتى نقتل فيك مرة أخرى ؛ لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جلّ جلاله : إني كتبتُ أنَّهم إليها لا يرجعون " {[2969]} .

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن الإمام الشافعي ، عن الإمام مالك ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نَسَمَةُ المؤمن طائر تَعْلَقُ في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " {[2970]} .

ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضًا ، وإن كان الشهداء قد خصِّصُوا {[2971]} بالذكر في القرآن ، تشريفًا لهم وتكريمًا وتعظيما{[2972]} .


[2968]:في أ: "حيث ما شاءت".
[2969]:صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه مختلف لكن معناه واحد.
[2970]:المسند (3/455).
[2971]:في جـ: "قد خصوا".
[2972]:في جـ: "تعظيما وتكريما".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ} (154)

قوله : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء } عطف النهي على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله ، فلما أمروا بالصبر عرفوا أن الموت في سبيل الله أقوى ما يصبرون عليه ، ولكن نبه مع ذلك على أن هذا الصبر ينقلب شكراً عندما يَرى الشهيد كرامته بعد الشهادة ، وعندما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية ، فقوله : { ولا تقولوا } نهي عن القول الناشىء عن اعتقاد ، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلاّ ما يَعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا ، والظاهر أن هذا تكميل لقوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] كما تقدَّم من حديث البراء فإنه قال : " قتل أناس قبل تحويل القبلة " فأعقب قوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } بأن فضيلة شهادتهم غير منقوصة .

وارتفع { أمواتٌ } على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي لا تقولوا هم أموات .

و { بل } للإضراب الإبطالي إبطالاً لمضمون المنهي عن قوله ، والتقدير بل هم أحياء ، وليس المعنى بل قُولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبرَ العظيمَ ، فقوله : « أحْيَآء » هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد { بل } الإضرابية .

وإنما قال : { ولكن لا تشعرون } للإشارة إلى أنها حياةٌ غير جسمية ولا مادِّيَّة بل حياة روحية ، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح ، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحَشْر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم ، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة ، ولذلك ورد في الحديث " إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها " . والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية ، فلما انفصلت الروح عن الجسد عُوِّضت جسداً مناسباً للجنة ليكون وسيلة لنعميها .