اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ} (154)

قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت الآية في قَتْلى " بدر " ، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً : ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار .

فمن المهاجرين : عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ، وعمر بن أبي وقاص ، وذو الشمالين ، وعمرو بن نفيلة ، وعامر بن بكر ، ومهجع بن عبد الله ، ومن الأنصار : سعيد بن خيثمة ، وقيس بن عبد المنذر ، وزيد بن الحرث ، وتميم بن الهمام ، ورافع بن المعلى ، وحارثة بن سراقة ، ومعوذ بن عفراء ، وعوف بن عفراء رضوان الله تعالى عليهم وكانوا يقولون : مات فلان ومات فلان ، فنهى الله - تعالى - أن يقال فيهم : إنهم ماتوا . وقال بعضهم : إن الكفار والمنافقين قالوا : إنّ الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمَرْضَاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية .

فصل في المراد بحياة الشهداء

اختلفوا في هذه الحياة .

فقال أكثر المفسرين : إنهم في القبر أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم ، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور .

فإن قيل : نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور ، فكيف يصح ما ذهبتم إليه ؟

فالجواب : قال ابن الخطيب : أما عندنا فالبنية ليست شرطاً في الحياة ، ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كلّ واحد من تلك الذّرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف .

وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بدّ منها في ماهية الحي ، ولا يعتبر بالأطراف .

ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا .

وقال الأصم : يعني لا تسمّوهم بالموتى ، وقولوا لهم : الشهداء الأحياء ، ويحتمل أن المشركين قالوا : هم أموات في الدين كما قال تعالى :{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] فقال : ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون ، ولكن قولوا : هم أحياء في الدين ، ولكن لا يشعرون [ يعني المشركين لا يعلمون من قتل على دين محمد صلوات الله وسلامه عليه حيٌّ في الدين ]{[1934]} وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن المشركين كانوا يقولون : إن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يقتلون أنفسهم ، ويخسرون حياتهم ، فيخرجون من الدنيا بلا فائدة ، ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء . وهؤلاء الذين قالوا ذلك ، يحتمل أنهم كانوا دهرية ينكرون المعاد ، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم منكرين لنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - فلذلك قالوا هذا الكلام ، فقال الله تعالى : ولا تقولوا كما قال المشركون : إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدّنيا ، ولكن اعلموا أنهم أحياء ، أي : سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة ، وتفسير قوله : " أحياء " بأنهم سيحيون غير بعيد ، قال الله تعالى : { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] ، وقال : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [ الكهف : 29 ] .

وقال : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] وقال { أفَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }

[ الحج : 56 ] .

والقول الأول هو المشهور ويدل عليه وجوه :

أحدها : الآيات الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } [ غافر : 11 ] ، [ والموتتان لا تحصلان إلا عند حصول الحياة في القبر{[1935]} ] وقال الله تعالى : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] و " الفاء " للتعقيب .

وقال : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً ؛ لأن العذاب حقّ الله - تعالى - على العبد ، والثواب حق للعبد على الله تعالى .

وثانيها : أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله : " وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ " معنى ؛ لأن الخطاب للمؤمنين ، وقد [ كانوا يعلمون أنهم ماتوا على هدى وكون أنهم{[1936]} ] كانوا لا يعلمون ؛ أي أنهم سيحيون يوم القيامة .

وثالثها : أن قوله تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم }

[ آل عمران : 170 ] دليل على حصول الحياة في البَرْزَخِ قبل البعث .

ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام " أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَاب القَبْرِ " وقوله : " القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النيران{[1937]} " .

وخامسها : أنه لو كان المراد من قوله : " إنهم أحياء " أنهم سيحيون ، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة .

قال القرطبي : والشهداء أحياء كما قال الله تعالى ، وليس معناه أنهم سيحيون ، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سَيَحْيَا .

ويدل على هذا{[1938]} قوله تبارك وتعالى : { وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ } والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون .

وأجاب عنه أبو مسلم بأنه - تعالى - إنما خصهم بالذكر ؛ لأن درجتهم في الجنة أرفع ، ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى :

{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] فأرادهم بالذكر تعظيماً .

قال ابن الخطيب{[1939]} : هذا الجواب ضعيف ؛ لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله - تعالى - ما خصهم بالذكر .

وفي هذا الجواب نظر ؛ لأن الآية الكريمة ليست في النبيين والصديقين ، إنما هي في الشهداء .

واحتج أبو مسلم بأنه - تعالى - ذكر هذه الآية في " آل عمران " فقال :{ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] وهذه العندية ليست بالمكان ، بل بالكون في الجنة ، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد{[1940]} القيامة .

وقال ابن الخطيب{[1941]} : لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة ، بل بإعلاء الدرجات ، وإيصال البشارات إليه ، وهو في القبر ، أو في موضع آخر .

وقال بعضهم : ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب ، والكلام في هذه المسألة مذكور في غير هذا المكان .

[ قال الحسن : إن الشهداء هم أحياء عند الله - تعالى - تُعْرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح والفرج ، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية ، فيصل إليهم الوَجَعُ ]{[1942]} .

قوله تعالى : { أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } خبر مبتدأ محذوف أي : لا تقولوا : هم أموات ، وكذلك " أحياء " خبر مبتدأ محذوف أي : بل هم أحياء .

[ وقد راعى لفظ " من " مرة فأفرد في قوله : " يقتل " ، ومعناها أخرى ، فجمع في قوله : " أموات بل أحياء " ]{[1943]} و " اللام " هنا للعلة ، ولا تكون للتبليغ ؛ لأنهم لم يُبَلِّغُوا الشهداء قوله هذا .

والجملة من قوله : " هم أموات " في محلّ نصب بالقول ؛ لأنها محكية به .

وأما " بل هم أحياء " فيحتمل وجهين :

أحدهما : ألا يكون له محل من الإعراب ، بل هو إخبار من الله - تعالى - بأنهم أحياء ، ويرجحه قوله : { وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ } ؛ إذ المعنى لا شعور لكم بحياتهم .

والثاني : أن يكون محلّه النصب بقول محذوف تقديره ، بل قولوا : هم أحياء ، ولا يجوز أن ينتصب بالقول الأول لفساد المعنى ، وحذف مفعول " يشعرون " لفهم المعنى : أي بحياتهم ، والله أعلم .


[1934]:- سقط في ب.
[1935]:- سقط في ب.
[1936]:- سقط في ب.
[1937]:- أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" للهيثمي، وقال: وفيه محمد بن أيوب بن سويد وهو ضعيف. وذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/238) وانظر إتحاف السادة المتقين (6/301) و (10/380).
[1938]:- في أ: على هذا.
[1939]:- ينظر الفخر الرازي: 4/133.
[1940]:- ينظر الفخر الرازي: 4/133.
[1941]:- في ب: بعد.
[1942]:- سقط في ب.
[1943]:- - سقط في أ