الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَلَا تَقُولُواْ لِمَن يُقۡتَلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتُۢۚ بَلۡ أَحۡيَآءٞ وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ} (154)

وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ . . . } [ البقرة :154 ] . سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأُحُدٍ من المؤمنين : مَاتَ فلانٌ ، ماتَ فلانٌ ، فكره اللَّه سبحانه أن تُحَطَّ منزلةُ الشهداءِ إِلى منزلة غيرهم ، فنزلَتْ هذه الآية ، وأيضاً : فإِن المؤمنين صَعْبٌ عليهم فراقُ إِخوانهم وقراباتِهِمْ ، فنزلَتِ الآيةُ مسلِّية لهم ، تعظِّم منزلة الشهداءِ ، وتخبر عن حقيقةِ حالِهِمْ ، فصاروا مغبوطين لا محزوناً لهم ، ويظهر ذلك من حديث أُمِّ حارثَةَ في السِّيَرِ .

( ت ) وخرَّجه البخاريُّ في «صحيحه » عن أنسٍ ، قال : " أُصِيبَ حارثةُ يوم بَدْر أصابه غَرْبُ سَهْمٍ ، وهو غلامٌ ، فجاءَتْ أُمُّهُ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَتْ : يا رسُولَ اللَّهِ ، قد عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي ، فَإِنْ يَكُ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ ، وَأَحْتَسِب ، وَإِن تَكُن الأخرى ، ترى مَا أَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : ( وَيْحَكِ ، أَوَ هُبِلْتِ ؟ أَو جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هَيَ ؟ إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى . . . ) الحديثَ ، انتهى .

( ع ) والفرق بين الشهيدِ وغيرهِ ، إِنما هو الرِّزْقُ ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى فضَّلهم بدوام حالِهِمُ التي كانَتْ في الدنيا فرزَقهُم .

( ت ) وللشهيدِ أحوالٌ شريفةٌ منها ما خرَّجه الترمذيُّ وابن ماجة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ ، يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ ، ويرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ ، وَيُوضَعُ على رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ، ومَا فِيهَا ، وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ الْعِينِ ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقْرِبَائِهِ ) قال الترمذيُّ : هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ ، زاد ابن ماجَة : ( ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ ) ، قال القرطبيُّ في «تذكرته » : هكذا وقع في نسخ الترمذيِّ وابن ماجة : «ستَّ خِصَالٍ » وهي في متن الحديث سَبْعٌ ، وعلى ما في ابن ماجة : «ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ » تكون ثمانياً ، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سَلْمَان النَّجَّاد بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ ثَمَانِ خِصَالٍ ) ، انتهى . وخرَّج الترمذيُّ ، والنسائِيُّ عنْه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الشَّهِيدُ لاَ يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ القَرْصَةِ ) انتهى .

( ع ) روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( أنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ ) ، وروي : ( أَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ ) ، ورويَ : ( أنهم في قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ ) ، إِلى كثير من هذا ، ولا محالة أنها أحوالٌ لِطَوَائِفَ ، أو للجميع في أوقات متغايرة .

( ت ) وكذا ذكر شَبِيبُ بن إِبراهيم في كتاب " الإِفصاح " أنَّ المنعَّمين على جهاتٍ مختلفةٍ ، بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم ، قال صاحب «التذكرة » : وهذا قول حَسَنٌ ، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع ، انتهى .

قال :( ع ) وجمهور العلماء على أنهم في الجَنَّة ، ويؤيِّده قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ حَارِثَةَ : ( إِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى ) .

وقال مجاهد : هم خارجُ الجَنَّةِ ويعلَّقون من شجرِهَا ، وفي «مختصر الطبريِّ » ، قال : ونهى عزَّ وجَلَّ أنْ يقال لِمَنْ يقتلُ في سبيلِ اللَّهِ أمْوَاتٌ ، وأعْلَمَ سبحانه أنهم أحياءٌ ، ولكنْ لا شعورَ لَنَا بذلك ، إذ لا نُشَاهِدُ باطنَ أمرهم ، وخُصُّوا مِنْ بين سائر المُؤمنين ، بأنهم في البَرْزَخِ ، يرزَقُون من مطاعِم الجَنَّة ، ما يُرْزَقُ المؤمنون من أهْل الجنة ، على أنه قد ورد في الحديثِ : " إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ " ، ومعنى : «يُعَلَّق » : يأكل ، ومنه قولهم : ما ذقْتُ عَلاقاً ، أي : مأكلاً ، فقد عم المؤمنين بأنهم يرزقُونَ في البرزخ ، من رزق الجنة ، ولكن لا يمتنعُ أن يخصَّ الشهداء من ذلك بقَدْر لا يناله غيرهم ، واللَّه أعلم ، انتهى .

وروى النسائيُّ ( أن رجلاً قال : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا بَالُ المُؤْمِنِينَ يُفْتَنُون فِي قُبُورِهِمُ إِلاَّ الشَّهِيدَ ؟ قَالَ : كفي بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ على رَأْسِهِ فِتْنَةً ) انتهى .

( ت ) وحديثُ : " إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ " خرَّجه مالك رحمه اللَّه ، قال الدَّاوديُّ : وحديث مالكٍ ، هذا أصحُّ ما جاء في الأرواح ، والذي روي ( أنها تجعل في حواصِلِ طيرٍ ) لا يصحُّ في النقل ، انتهى .

قال أبو عُمَرَ بْنُ عبْدِ البَرِّ في «التمهيد » : والأشبه قولُ من قال : كَطَيْرٍ أو كصُوَرِ طيرٍ لموافقته لحديثِ «الموطَّأ » هذا ، وأسند أبو عمر هذه الأحاديثَ ، ولم يذكر مطعناً في إسنادها ، انتهى .

ثم أعلمهم تعالى أن الدنيا دارُ بلاءٍ ومحنةٍ .